عمدت الولايات المتحدة كقوة احتلال إمبريالية إلى تفكيك الدولة والمجتمع العراقي عبر استثمار التعدد العرقي الإثني والديني المذهبي كعامل هدم من خلال بناء العملية السياسية على أسس هوياتية مزدوجة عبر تأكيد الهويات العرقية الإثنية وانقساماتها بين عرب وكرد بصورة أساسية، وترسيخ الاختلافات الهويانية الدينية المذهبية بين
السنة والشيعة بشكل رئيسي، وفي الوقت الذي مكنت فيه الولايات المتحدة الكرد من إدارة إقليم شبه مستقل، تمت مكافأة
الشيعة وتمكينهم من الحكم بعد مساندة مرجعياتهم للاحتلال، أما السنة فقد جرى تهميشهم كإجراء عقابي لانخراطهم في النظام السابق ومعارضتهم المسلحة للاحتلال، بحيث باتت عقيدة الإرهاب السني أحد مسلمات الاحتلال والإمبريالية، ولا تزال أمريكا تعاقب السنة تحت شعار "حرب الإرهاب".
لا جدال بأن الفلوجة شكلت أيقونة للهوية السنية المقاومة للاحتلال الأمريكي، وعلى مدى سنوات الاحتلال تعرضت المدينة للقتل والتنكيل والانتقام والإذلال والتخريب، إلا أنها لم ترضخ واستعصت على تحويل أبنائها إلى "صحوات" و"مخبرين"، ولا عجب أن تنظيم الدولة الإسلامية تمكن من السيطرة على المدينة منذ كانون ثاني/ يناير 2014، واتخذها قاعدة رئيسية لتمدده إلى بقية المناطق، وإذا كانت الولايات المتحدة قد استخدمت الشيعة في لعبة الهويات بهدف السيطرة على العراق، إلا أنها فشلت في كبح النفوذ
الإيراني الذي باتت العراق حديقته الخلفية، واليوم تتحالف أمريكا وإيران في معركة الفلوجة وكسر السنة، فقد أصبحت الشراكة حقيقة واقعية بعد الاتفاق حول الملف النووي الإيراني في "الحرب على الإرهاب (السني)"، وأصبحت مليشياتها الطائفية طليقة اليد وتتمتع بالرعاية والحماية من المساءلة باعتبارها أداة رئيسية في مواجهة "الإرهاب السني"، وعقب شهور من الخطابات البلاغية المتعلقة بالوحدة الوطنية للحكومة العراقية الجديدة برئاسة حيدر العبادي، الذي تعهد بالتخلص من سياسات سلفه المالكي الطائفية، كشفت الممارسات الممنهجة للحكومة العراقية عن تلبسها بسياسات الهوية الطائفية وتواطئها مع المليشيات الشيعية، فقد برهنت معركة تحرير تكريت المزعومة وصولا إلى معارك ديالى فالرمادي عن قوة المليشيات الطائفية وتحكمها في مفاصل الدولة وعجز الحكومة المركزية عن لجم نهجها الهوياتي الطائفي واستراتيجياتها المستندة إلى حرب التطهير المكاني، حيث أصبحت بعض المدن والمناطق السنيّة مطهرة مكانيا من السنة بعد نهبها وحرق منازلها ومساجدها وقتل من بقي من أهلها، على أنغام ثارات الحسين وتحت رايات المليشيات الطائفية، وبرعاية أمريكية من خلال طائراتها وخبرائها.
على الرغم من محاولة أمريكا تجنب الظهور في معركة الفلوجة، إلا أن الولايات المتحدة تشارك بفاعلية في معركة الفلوجة، وبحسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فإن معركة الفلوجة غرب العاصمة بغداد تعد مثالاً حياً على تلاقي المصالح الأمريكية والإيرانية، على الرغم من التناقضات والتباين في العلاقة بين الدولتين، فواشنطن ترى أن مشاركة طهران بشكل واضح كما يجري في الفلوجة، يمكن أن يزيد من تعقيدات الوضع في العراق، وخاصة فيما يتعلق بسخط السنة ودفعهم باتجاه تنظيم الدولة، الأمر الذي يكشف عن عمق التعاون والتنسيق والخلاف حول الظهور العلني لدورهما المدمر، فواشنطن وطهران يدعمان الحكومة المركزية ببغداد في هذه المعركة، حيث يوجد مستشارون أمريكيون مع القوات العراقية، بالإضافة إلى وجود دور إيراني واضح.
تحاول أمريكا أن تظهر حرصا كاذبا على أرواح المدنيين السنة في الفلوجة، وتخشى من غضب سني في أحد الكواكب في مجرة بعيدة، إذ لا يزال قرابة 100 ألف مدني سني يعيشون داخل الفلوجة يعانون الجوع وفقدان الأدوية بفعل الحصار الذي فرضته عليهم قوات الحكومة والمليشيات الداعمة لها، لكن المتحدث باسم التحالف الدولي العقيد الأمريكي ستيفن وارن، لا ينتقد المليشيات وحكومة المليشيات بل يحمل تنظيم الدولة الإسلامية المسؤولية، فقد أعلن أن التنظيم في مدينة الفلوجة يستخدم قناصته لمنع المدنيين من الخروج من المدينة، وبحسب رواية وارن "فإن داعش وضعوا قناصة في أماكن تشرف على ممرات إجلاء المدنيين التي أقامتها القوات الحكومية لمنع مغادرة سكان المدينة الواقعة على بعد 50 كلم غرب بغداد والتي تعاني من شح هائل في المواد الأساسية بما في ذلك الأدوية، وأضاف "نعلم أن العراقيين حاولوا مرارا فتح ممرات إنسانية كي يتمكن بعض هؤلاء المدنيين من المغادرة ولكن هذه الجهود لم تتكلل بالنجاح بشكل عام لأن تنظيم داعش أخذ تدابير مثل وضع قناصة لتغطية هذه الممرات بهدف قتل الناس عندما يحاولون المغادرة، وهذا ما أدى إلى ثني الناس عن استخدامها".
لكن جرائم دولة المليشيات المسندة أمريكيا لا يمكن إخفاؤها، ذلك أن المليشيات تفتخر بتوثيق ممارساتها وتحرص على تسجيل وتصوير جرائمها المقززةـ وفي سياق الانتهاكات قال المستشار الإعلامي لمجلس محافظة الأنبار عبد القادر الجميلي إن أكثر من ألف مدني من سكان المناطق المحيطة بالفلوجة محتجزون لدى القوات الأمنية بحجة التحقيق معهم رغم انقضاء مدة طويلة على اعتقالهم، وأضاف أن مجموع المدنيين الذين تمكنوا من الخروج من مناطق شمال الفلوجة قد تجاوز عشرة آلاف مدني، مضيفا أن المنظمات الدولية والوزارات المعنية لم تتفاعل مع هذه الأزمة الكبيرة.
وقد باتت المعاملة السيئة وانعدام المخيمات الملائمة لمن خرج منهم هربا من القصف الأمريكي والمليشياوي الأعمى والانتقامي، دافعا لأهالي الفلوجة للبقاء في منازلهم ومواجهة مصيرهم، وقد دفعت التقارير المتواترة لعمليات القتل والانتهاكات الطائفية المليشياوية وزارة الخارجية الأميركية للإعراب عن قلقها إزاء ارتكاب الجيش العراقي ومليشيات الحشد الشعبي انتهاكات في الفلوجة، وكأنها ليست شريكة في هذه الجرائم، وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية مارك تونر إن واشنطن تتواصل مع الحكومة العراقية بخصوص تقارير الانتهاكات في الفلوجة، مؤكدا التزام بلاده تجاه المدنيين في الفلوجة ودعم القوات الأمنية العراقية عبر الضربات الجوية والمعلومات الاستخباراتية والمشورة العسكرية والمعدات.
تعمل أمريكا على دفع أهالي الفلوجة إلى مغادرتها رغم حملات التنكيل والقتل والاعتقال والإذلال المليشياوي الشيعي الطائفي، كخطوة ضرورية لتدمير المدينة بالكامل كما فعلت في الرمادي وغيرها، وبحسب جيم سيكيوتو، كبير مراسلي الأمن القومي الأمريكي لدى سي إن إن، فإن السيطرة على مدينة الفلوجة العراقية ستكون "الجائزة الكبرى" بالمواجهة مع داعش، نظرا لرمزية المدينة تاريخيا، وأوضح سيكيوتو أن التدخل الأمريكي يحصل جوا، مضيفا أنه خلال الأيام الستة الأولى من معركة الفلوجة نفذت الطائرات الأمريكية 21 غارة عبر مقاتلات وطائرات عاملة بدون طيار لأجل دعم العمليات التي تخوضها القوات العراقية برا.
خلاصة القول أن أمريكا شريكة في تدمير وإبادة سنة الفلوجة والعراق من خلال تحالفها مع إيران ودولة المليشيات الشيعية في عراق ما بعد احتلالها، وهي لا تكتفي بدعم وإسناد عمليات قتل السنة، بل تعمل على تمزيق نسيجهم التاريخي بدعم "صحوات" وقيادات وتوجهات سنية، تحت ذريعة حرب الإرهاب، ولم تقم منذ احتلالها للعراق بدعم أي مشروع سني، ولم تضغط لاستدخالهم في العملية السياسية، وأفشلت كافة المحاولات لتوحيد السنة في العراق كما في سورية، وتحالفت مع أعدائهم من سائر الملل والطوائف، وبعد ذلك تتساءل حكيمة الإرهاب أمريكا: "لماذا يكرهوننا".