أثار منح
مصطفى الباكوري رئيس جهة
الدار البيضاء ـ سطات (العاصمة الاقتصادية للمغرب وسط) دعما سنويا لفائدة "جمعية أوركسترا الفلرمونية
المغربية"، بمبلغ 500 مليون سنتيم (نصف مليون دولار)، التي كشفت وثيقة رسمية للجمعية أنه عضو في مكتبها، غضبا متصاعدا في المغرب.
المنحة التي لاقت رفضا من طرف فريق العدالة والتنمية (المعارض في الجهة)، وشهدت نقاشا حادا بين أعضاء كل من لجنة المالية، ولجنة الشراكات، وكذا لجنة الثقافة واللجنة الاجتماعية، بسبب تورط الجميعة في سوء تدبير أموال عمومية كما فضحها آخر تقرير للمجلس الأعلى للحسابات.
في البدء كانت المنحة
كشفت وثائق نشرت مؤخرا عن بنود اتفاقية سيمرر بموجبها رئيس جهة الدار البيضاء - سطات مصطفى الباكوري منحة سنوية تقدر بـ 500 مليون سنتيم (نصف مليون دولار) لصالح جمعية الفلرمونية الموسيقية، في بلد يبلغ الحد الأدنى للأجور فيه أقل من 300 دولار.
وتقول وثائق الاتفاقية أنها مفتوحة تبتدئ من يوم التوقيع عليها، دون أن يحدد الطرفان زمن نهايتها.
وعلمت "
عربي21" أن الملف لم يكن ليكشف لولا أن بعضا من مستشاري فريق العدالة والتنمية بمجلس جهة الدار البيضاء، رفضوا تمرير نقطة في جدول أعمال دورة المجلس المقررة يوم الاثنين المقبل.
وجه اعتراض فريق العدالة والتنمية، تقول مصادر "
عربي21"، هو أن "جمعية أوركسترا الفلرمونية المغربية التي ستستفيد من دعم المجلس، سبق أن صدر تقرير سلبي من
المجلس الأعلى للحسابات (أعلى محكمة مالية) يتهمها بسوء تدبير المال العام".
وتابعت المصادر أن فريق العدالة والتنمية "اعترض على الاتفاقية، كذلك لخرقها مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع الجمعيات ووجوب مرور أي دعم للجمعيات لمسطرة تقديم المشاريع وفق شروط وآجال تتساوى فيها جميع الجمعيات الحاملة لمشاريع".
وأضافت أن "الاتفاقية كانت معرض نقاش ساخن بين أعضاء كل من لجنة المالية، ولجنة الشراكات، وكذا لجنة الثقافة واللجنة الاجتماعية".
وحسب المصدر ذاته، فإن "الاتفاقية مازالت مطروحة للتصويت في اجتماع دورة تموز/يوليو الاثنين القادم، نظرا لكون دور اللجنة استشاري فقط".
الميلياردير الفقير
ما هي "جمعية أوركسترا الفلرمونية المغربية"؟ ولماذا استفادت من هذا الدعم السخي من طرف رئيس مجلس الجهة؟ ما علاقة رئيس الجهة بالجمعية؟ من هو مسؤولها؟
الجواب على هذه الأسئلة قادنا إلى البحث عن تاريخ الجمعية وأرشيفها ومؤسسيها والعلاقة بينهم وبين هذا المسؤول السياسي.
رحلة البحث أوصلتنا إلى سنة 1997 التاريخ الذي تأسست فيه "جمعية أوركسترا الفلرمونية المغربية"، من طرف عدد من عشاق الموسيقى الكلاسيكية، كان على رأسهم "
فريد بنسعيد" الذي يعد رئيس الجمعية منذ ذلك التاريخ، وعازف الكمان الرئيسي بها، فمن يكون هذا الرجل المحتاج لدعم الجهة من المال العام؟
"فريد بنسعيد" إمبراطور مالي واقتصادي وإعلامي يملك "تينور هولدينغ/ holding tenor"، التي قالت عنها جريدة "بلادي" إن رقم معاملاتها السنوي منذ 2005 يتجاوز 1.3 مليار درهم (130 مليون دولار) سنويا.
هذا هو رئيس الجمعية "السعيد" بهذا الدعم السخي، فما علاقته برئيس الجهة والرئيس السابق لحزب الأصالة والمعاصرة (المعارض)؟
في أحد أيام كانون الأول/ديسمبر الباردة سنة 2007 بالعاصمة الرباط، عقدت جمعية أوركسترا الفلرمونية المغربية اجتماعا هو الأول لمكتبها "الشرفي" الذي تكلف بمهمة دعم الجمعية.
اختارت الجمعية أن تحتفل بذكرى ميلادها العاشرة، بتشكيل مكتب شرفي ستكون مهمته "دعم" الجمعية، من بين مؤسسيه "مصطفى الباكوري"، الذي كان رئيسا مديرا عاما لصندوق الإيداع والتدبير في المغرب، أهم مؤسسة مالية تسير كبرى شركات الدولة.
دعم الجمعية من طرف العضو الشرفي "الباكوري" لم يتوقف عند هذا اليوم، بل كان فقط خطوة أولى في خطوات دعم جمعية رجل الأعمال وعازف الكمان.
سنتان بعد هذا العام، سيخرج إلى العلن التعهد بالدعم، وسيرتقي من دعم "جمعية أوركسترا الفلرمونية المغربية" إلى دعم "مؤسسة تينور للثقافة" التي تعد الجناح الثقافي لـ"تينور هولدينغ"، ودائما من المال العام.
كشفت وثيقة ثالثة عبارة عن بيان نشرته "الجمعية" أن صندوق الإيداع والتدبير الذي كان يرأسه مصطفى الباكوري قام في سنة 2009 بإبرام عقد شراكة مع "مؤسسة تينور للثقافة" التي يرأسها فريد بنسعيد رئيس المؤسسة والجميعة معا.
لم نعثر خلال رحلة بحثنا عن القيمة المالية لعقد الشراكة بين صندوق الدولة السيادي ومؤسسة رجل الأعمال، التي ظهرت فجاة في الوثيقة باعتبارها وصية على الجمعية، رغم ان جميع المؤشرات تقول بأن الزعيم المعارض لن يكون بخيلا مع صديقه، ورئيس الجمعية التي يعد عضوا شرفيا بها.
صداقة الرجلين التي تطورت من 2007 إلى 2016، ظلت وفية للعلاقة مع المال العام، منح وعطاء مقابل تقديم سهرات فقط، دون تبيان الوجه الآخر من واجبات الجمعية الموسيقية، خاصة في ظل صدور تقرير عن المجلس الأعلى للحسابات يرصد اختلالات مالية للجمعية.
التقرير الأسود
كشف المجلس الأعلى للحسابات في التقرير الذي صدر في نيسان/ أبريل الماضي، الذي خصص شقا منه للجمعيات ذات المنفعة العامة والتي كان من بينها "جمعية أوركسترا الفلرمونية المغربية" التي يعد رئيس الجهة "المانح" عضوا في مكتبها الشرفي، اختلالات مالية وإدارية تستوجب المتابعة طبقا للقانون.
يلخص التقرير الصادر قبل شهرين، والذي خصص أربع صفحات للجمعية، طريقة حصولها على المال من "مجلس عمالة الدار البيضاء" في الفترة مابين 2009 و2013 وكذلك الطريقة التي دبرت بها الجمعية العمومي.
أول ما يواجهك وأنت تقرأ التقرير أن "مجلس العمالة" منح الجمعية خلال خمس سنوات فقط، موضوع التحقيق، المبلغ نفسه الذي من المقرر أن تستفيد منه سنويا طيلة فترة الاتفاقية المزمع المصادقة عليه الاثنين المقبل.
الجمعية سعيدة الحظ حصلت على 22.5 مليون درهم (2.5 مليون دولار) خلال خمس سنوات وتسعى اليوم إلى الحصول إلى المبلغ المالي نفسه، الفرق يكمن هذه المرة في الجهة المانحة، حيث انتقت من "العمالة" إلى "الجهة".
في القسم الثاني من التقرير الذي عنونه المجلس بـ"التدبير المحاسبي للجمعية" سجلت ملاحظات كثيرة على طريقة التدبير التي اعتمدتها الجمعية لصرف المنحة.
كانت أولى الملاحظات "عدم تقديم حسابات استعمال أموال عمومية"، حيث لم تحترم الجمعية القانون ولم تسلم الأجهزة المكلفة بالمراقبة الحسابات المتعقلة بصرف المبالغ، طبقا للفصل 155 من مدونة المحاكم المالية.
ثاني الملاحظات بحسب التقرير، تتمثل في نفقات المنحة حيث يغيب تحديد ميزانية تمكن من تتبع وجهات صرف المنحة، منتقدا هذا النمط من التدبير لكونه لا يسمح بتقديم رؤية واضحة حول النفقات.
وسجل التقرير وجود "نقائص في تقديم الوثائق التبريرية"، كغياب لوائح المستفيدين من الحجوزات الفندقية، غياب معلومات متعلقة بنوعية وكميات أشغال مضمنة بفواتير تهيئة شقق، وعدم تبرير نفقات الصندوق بالوثائق.
لاحظ المجلس أن الجمعية لجأت إلى منح قروض لمستخدمي الجمعية من منحة الدعم العمومي، استفاد منها المدير التقني "م.ل" وعضو آخر في الجمعية "ج.ب"، خلافا للمادة 16 من الفقرة 4 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، الذي "يمنع الجمعيات غير الربحية من منح قروض للمستفيدين منها".
وأضاف التقرير "وجود خلل في مسك سجل وتدبير المخزون"، و"أداء نفقات عن طريق الصندوق في غياب الوثائق المبررة لها مع تجاوز السقف المحدد".
هل تتحرك النيابة العامة؟
لم يمهل رئيس جهة الدار البيضاء المجلس الأعلى للحسابات وقتا، حيث بادر شهرين بعد صدور التقرير الأسود عن الجمعية، إلى وعدها بمنحة سمينة، حرص على إخراجها من خلال القنوات الرسمية.
يعتبر المجلس الأعلى للحسابات مؤسسة دستورية، تعنى بالحماية البعدية للمال العام، من خلال عمليات الافتحاص وإصدار تقارير دورية عن طريقة تدبير المالية العمومية، كما تملك أن تلعب دور النيابة العامة بالأصالة في بعض القضايا أو بعد إحالة وزير العدل والحريات.
كما أن ملاحظات مجلس الحسابات حول طريقة تدبير الجمعية كفيلة وحدها بحرمان الأخيرة من الدعم إن لم يكن السعي إلى حرمانها من صفة المنفعة العامة، بناء على القانون المتعلق بتحديد "شروط ومسطرة الاعتراف بصفة المنفعة العامة".