لم يَعُد يَفصلُ المغاربةَ عن انتخاب مجلس النواب المقبل سوى أقل من شهرين (07 أكتوبر/ تشرين الأول 2016)، وهو الاقتراع الذي تَعِي الطبقةُ السياسيةُ والمتابعون للشأن العام في
المغرب أهميتَه البالغة بالنسبة للتطور السياسي والممارسة الديمقراطية في البلاد. لذلك، يعيش المغرب على إيقاع هذا الاستحقاق، وتسودُ حياتَه السياسية حرارةٌ تنافسيةٌ فائقة، يُنتظر أن ترتفعَ درجتُها أكثر خلال هذا الشهر والشهر المقبل. ولأن فصيلاً من " الإسلاميين" ، أي حزب " العدالة والتنمية"، تحمّل مسئولية قيادة العمل الحكومي منذ تَصدّره نتائجَ انتخابِ مجلس النواب في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، فإنه اليوم في قلب النقاش والمُحاسبة حول حصيلتِه العامة، ومدى قدرتِه على إعادة إقناع الناخبين بأن أداءَه كان مقبولا، وأنه ظل وفياً لوعوده الانتخابية السابقة، ومازال جديراً بنيل أصواتهم مرة أخرى في الاقتراع المقبل.
يَصعُب فهمُ سياق قيادة حزب العدالة والتنمية العمل الحكومي منذ تنصيب حكومته الأولى في يناير/ كانون الثاني 2012 دون استحضار مُتغيِّرين اثنين. يتعلق أولهما بالوثيقة الدستورية الجديدة لعام 2011، في حين يخُص ثانيهما " الحراكَ الاجتماعي" الذي عَمَّ البلاد العربية، ومنها المغرب، مطلعَ السنة نفسها. فمن المعروف أن الدستور الجديد، وإن حافظ على مجموعة من السلطات الإستراتيجية للملك، فقد وسّع صلاحيات " الوزير الأول"، الذي اتخذَ تسميةَ " رئيس الحكومة" في دستور2011، كما خوّل الحكومة إمكانيات جديدة للمبادرة والتدخل، وهو ما يعني أن ثمة دوائر وهوامش لفعل الحكومة ورئيسها. أما ما سمي " الربيع العربي"، فقد عُرف عن المغرب إقدام الملكية على خطوات إصلاحية استباقية، حافظت على تماسك البلاد، وجنّبتها المسارات العنيفة التي تعرضت إليها بعض نظيراتها العربية.
نُذكر القارئ الكريم أن "الإسلاميين المغاربة"، الذين انتقلوا من حركة دَعوية (حركة التوحيد والإصلاح) إلى حزب مدني بمرجعية إسلامية، هو حزب العدالة والتنمية (1998) شاركوا لأول مرة في انتخابات 1997، وحصلوا عالى نتائج متقدمة في استحقاقي 2002 و2007، قبل أن يتصدروا قائمة انتخاب مجلس النواب في اقتراع 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، الذي قادهم إلى رئاسة الحكومة. والواقع أن وعودَهم كانت كثيرة وعالية السقف، لاسيما في موضوعات شغلت الرأي العام المغربي، وشكلت تطلعات حقيقية لعموم المغاربة، من قبيل تعميق "الإصلاح ضمن الاستقرار"، و "محاربة الفساد وممارسات الريع بكل أشكاله"، وبالمقابل العمل على "إشاعة ثقافة التكافؤ والاستحقاق، وبث روح "العدالة الاجتماعية"، ثم ربط "المسئولية بالمحاسبة". وهي في الإجمال الشعارات القوية التي اعتمدها "الإسلاميون" لإقناع جزء يسير من الجسم الانتخابي المغربي في اقتراع 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.
لاشك أن حزب العدالة والتنمية يعرف قبل غيره ماذا حقق وماذا صعب عليه إدراكه، ويعي فعلا الممكن والمستحيل في لعبة السياسة في المغرب. كما تعرف الدوائر الاقتصادية والمالية، والباحثون والخبراء المتابعون لهذه التجربة تفاصيل الحصيلة إيجاباً وسلباً. ففي الإجمال ما يمكن استخلاصُه من إعجاب المُعجبين بأداء " الإسلاميين"، والمنتقدين له، والمعترضين على سياساته، أن ، كما قال الشاعر، "ما كل ما يبتغي المرء يُدركه".. فقد وجد "الإسلاميون أنفسهم أمام الحائط في موضوع الفساد ومحاربته، بل تأكدوا أن البون شاسع بين " الرغبة والممكن"، بل من مكره التاريخ أنهم، تعرضوا وهم يستعدون لمغادرة مركبة الحكومة، لموجات من الاتهام بفساد بعض أعضائهم، على الرغم من نظافة أيادي مجملهم. وفي السياق نفسه، أدركوا أن إفسال قيم "الاستحقاق وتكافؤ الفرص والشفافية" ليس بالأمر السهل، وأن المشكلة ثقافية بالدرجة الأولى قبل أن تكون عزيمة وإرادة، وأنها تحتاج إلى التدرج في الزمن، وتوسيع دائرة التأييد حول جدواها وأهميتها. ولم يفتهم الانتباه إلى ضعف ثقافة المساءلة والمحاسبة في المجال السياسي المغربي، على الرغم من احتلالها مكانة مركزية في الوثيقة الدستورية لعام 2011.ففي الإجمال يمكن القول بدون تردد أن نصيب حزب العدالة والتنمية من تغيير الظواهر البنيوية المتأصلة في المغرب محدود وضعيف، على الرغم من سقف شعاراتهم المرتفع، ولغتهم العالية في أغلب الأحوال.
ومن زاوية الاقتصاد وتداعياته الاجتماعية، ثمة ما يشبه الإجماع على أن الحصيلة كانت سلبية.. فكل ما قام به حزب العدالة والتنمية، خلافا للحكومات التي سبقته، أنه نفّذ باقتدار توجيهات المؤسسات المالية الدولية في مجال المحافظة على التوازنات المالية والماكر واقتصادية، عبر سياسات اجتماعية موجِعة وضارّة بفئات واسعة من المجتمع المغربي، بما فيها الطبقة المتوسطة على محدودية حجمها، دون نسيان أن الاستدانة المالية للخارج ارتفع منسوبها بشكل لافِت.
لكن بالمقابل، ثمة إيجابيات تستلزم الموضوعية تسجيلها لصالح "الإسلاميين" خلال ولايتهم، أبرزها استكمال صياغة وإصدار القوانين المُهيكِلة (التنظيمية والعادية) المنصوص عليها إجباريا في نص الدستور الجديد، والإشراف على إجراء الانتخابات المحلية والجهوية (خريف 2015)، وإعداد شروط إجراء الاقتراع النيابي المقبل (07 أكتوبر / تشرين الأول 2016).
وفي كل الأحوال لم تكن تجربة حزب العدالة والتنمية، من حيث حصيلتها العامة وطبيعة تأثيرها في الممارسة السياسية المغربية، بالحصيلة الكاملة والمثالية، كما لم تكن بالضعيفة والسلبية تماما.. إنها في منزلة بين المنزلتين، والراجح، في تقديرنا، أنها تجربة وُلدت وظلت محكومة بما أشرنا إليه في صدر هذا المقال، أي طبيعة النظام السياسي المغربي، حيث ترتهن السياسة والسلطة بما هو بنيوي في النظام، وظلت مرتبطة بالسياق الذي أفرزه "الحراك الاجتماعي" الذي عمّ البلاد العربية، وضغط بظلاله على عموم دول المنطقة.. وقد يكون لصيقاً أيضا بالعوامل الذاتية للإسلاميين أنفسهم، من حيث ضعف خبرتهم في السلطة، وتذوق بعضهم " شهية" السلطة، ونوع نموذج الثقة الذي يجهدون من أجل بنائه من المؤسسة الملكية.