بعد فترة من الانقطاع عادت التفجيرات والعمليات الانتحارية إلى
تركيا عبر عدة هجمات، أهمها تفجيرا مدينتي فان وإيلازيغ اللذين استهدفا مراكز أمنية، بينما وصلت الهجمات إلى الذروة مع تفجير مدينة غازي عنتاب الانتحاري الذي استهدف حفل زفاف وأودى بحياة 50 شخصاً وجرح العشرات حتى لحظة كتابة هذه السطور.
ليست تركيا غريبة على هذه الهجمات، فقد عانت منها على مدى الشهور والسنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ تموز/ يوليو 2015 الذي شهد هجمات انتحارية لتنظيم الدولة- داعش، واستئناف حزب العمال الكردستاني لعملياته العسكرية بعد هدنة استمرت لأكثر من عامين في ظل عملية تسوية كانت تسير لحل المشكلة الكردية داخلياً. وهو ما جعل تركيا عرضة لاستهداف متزامن من ثلاث منظمات مصنفة على قوائم الإرهاب لديها: العمال الكردستاني (PKK) وداعش ومنظمات يسارية متطرفة أهمها جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري (DHKP -C).
لاحقا، وفي نيسان/ أبريل الفائت، صنفت هيئة الأمن القومي التركية الكيان الموازي، وهو الاسم المتداول سياسياً وإعلامياً للمجموعة القيادية المتنفذة في جماعة "الخدمة" بقيادة فتح الله كولن، كمنظمة إرهابية على هامش المواجهة المستمرة بينه وبين الحكومة منذ كانون الأول/ ديسمبر 2013، حتى وصل الأمر إلى لحظة المحاولة الانقلابية الفاشلة التي أظهرت مقدار تغلغل هذا التنظيم وأفراده في مختلف مؤسسات الدولة سيما الجيش، والمدى الذي يمكن أن يصله في المواجهة.
بعد أكثر من شهر من إفشال الانقلاب واستتباب الأمن إلى حد ما في البلاد وإعلان القيادة السياسية التركية عن زوال خطر الانقلاب المباشر، عادت التفجيرات والهجمات الانتحارية لتتصدر نشرات الأخبار وأحاديث المواطنين وتصريحات صانعي القرار بعد أن غابت لأسابيع. وبالتالي تحمل هذه الهجمات، سيما الأخيرة في غازي عنتاب، عدة رسائل ودلالات بالنظر إلى توقيتاتها وتفاصيلها وتداعياتها، أهمها:
أولا، يشير غياب الهجمات لفترة طويلة ثم عودتها بعد غياب أي إشارات لانقلابات محتملة أو هجمات ارتدادية إلى تناغم وتعاقب بين التنظيمات والأحداث التي تتهدد تركيا، وهو ما يراه الساسة الأتراك طرف خيط يشير إلى تنسيق ما بينها جميعاً باعتبارها أدوات بأيد خارجية تديرها وتوجهها، أي ما يطلق عليه اسم "العقل المدبر" أو "العقل الأعلى" وفق تعبير اردوغان.
ثانيا، تشير هذه الهجمات إلى الفشل التام لسيناريو الانقلاب التقليدي وفقدان الأمل بإمكانية إيقاف الإجراءات الحكومية الحالية بحق الكيان الموازي، وبالتالي تم اللجوء إلى السيناريوهات البديلة أي الفوضى والهجمات الانتحارية والتفجيرات وربما الاغتيالات السياسية مستقبلاً.
ثالثا، تتزامن هذه العمليات مع المواقف التركية الأخيرة بالتقارب مع كل من روسيا وإيران وتصريحات قادتها التي أفادت بتغير موقفها من الأزمة السورية وخصوصاً ما يتعلق بمصير الأسد، وبالتالي فلا يمكن الفصل بين التفجيرات في الداخل وما تحمله من رسائل تتعلق بالسياسة الخارجية إما لردع أنقرة عن مسارها أو لتسريع خطواتها فيه.
رابعا، ثمة خصوصية واضحة لتفجير غازي عنتاب في هذا السياق، يتعلق أولاً بموقعها في جنوب شرق البلاد وقربها من الحدود السورية وخليط سكانها الكردي - التركي إضافة لعدد اللاجئين السوريين الكبير فيها، كما يتعلق بتفاصيل الهجوم الذي أراد إيصال رسالة دموية صاخبة بإيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال من خلال استهداف حفل زفاف أو "ليلة حناء"، فضلاً عن مدى الإجرام أيضاً في بعد إضافي يتعلق بتنفيذ الهجوم باستغلال طفل لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره إذا ما تأكدت لاحقاً هذه التقديرات الأولية التي أعلن عنها الرئيس التركي.
خامسا، كل هذه التفاصيل التي تشير إلى داعش أكثر من غيره من التنظيمات المصنفة إرهابية على قوائم أنقرة، يضاف لها البعد الاجتماعي الواضح عبر استهداف عائلة كردية هاجرت من مكان سكنها الأصلي للتخلص من ضغوط حزب العمال الكردستاني وحربه التي يشنها داخل المدن السكنية. وهو تفصيل يحمل أهمية كبيرة على مستوى الملف الكردي برمته، وهو الملف الذي حاولت حكومات العدالة والتنمية منذ سنوات حله داخلياً عبر عملية سياسية تفضي إلى إلقاء الكردستاني السلاح في مقابل دستور جديد يضمن كافة حقوق المكون الكردي من الشعب في إطار المواطنة المتساوية، بينما تسير الحركة الكردية بشقيها السياسي (حزب الشعوب الديمقراطية) والعسكري (حزب العمال الكردستاني) بإرادة واضحة نحو التدويل وفرض الحلول الإقليمية - الدولية، تأسياً بنظرائهم في كل من العراق وسوريا.
وبالتالي ينبغي متابعة ردات الفعل السياسية والميدانية للطرفين المذكورين رداً على التفجير، لجهة الخطاب السياسي المتعلق بمسؤوليات الحكومة، ولجهة أي عمل عسكري محتمل من الكردستاني، ومن زاوية الخطاب المقدم للشارع الكردي بما يمكن أن يذكر بالموجهات الكردية - الكردية (إسلامية - يسارية) على هامش معركة عين العرب/كوباني والتس سقط ضحيتها عشرات القتلى.
في المحصلة، إذا كانت الأدبيات النظرية تقول بأن هذا النوع من المنظمات المسلحة التي تعمل داخل دولة ما بغطاء المطالبة بحقوق معينة تتحول في كثير من الأحيان لأدوات بيد أطراف خارجية للضغط على هذه الدول، فإن الواقع العملي أيضاً يرينا أن الكيان الموازي وحزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة - داعش لا يشذون عن هذه القاعدة، بل يخدمون فعلاً أجندات خارجية بالنظر إلى التوقيت والسياقات والرسائل المتضمنة في هجماتهم، قصدوا أم لم يقصدوا، أكان الأمر عمالة أم استغلالاً أم توجيهاً بغير قصد، وقد قيل سابقاً إن الغبي لا يختلف في كثير من الأحيان عن العميل بإرادته من حيث النتيجة في الواقع وعلى الأرض.