أولا: من جهة المعارك فلا شك أن حرب
أكتوبر كانت نصرا حتى يوم 14 تشرين الأول/ أكتوبر، ثم تحولت لهزيمة حتى تم وقف إطلاق النار في 22 تشرين الأول/ أكتوبر.
ثانيا: من جهة النتيجة النهائية، فقد أسفرت عن خسارة فادحة في كانون الثاني/ يناير من عام 1974م بمفاوضات فض الاشتباك (مفاوضات الكيلو 101). نتائج هذه المفاوضات لم تكن تسمح سوى بالمسار أو كانت مسار تمهيدي لكامب ديفيد.
ثالثا: على المستوى المعنوي للجماهير كانت انتصارا كبيرا للمصريين، إذ حققت ما لم يكن متوقعا تحقيقه في حسهم، والعكس بالنسبة للصهاينة، إذ لم يكونوا يتصورون أي مقدرة للطرف الآخر، وكانت التوقعات الجماهيرية تشير بهلاك مبرم ساحق لأي قوات تفكر في حرب الصهاينة، لا أنها يمكن أن تلحق بها هزائم حتى ولو في لحظات المعارك الأولى.
رابعا: على مستوى الجنود والأفراد، كانت حربا جادة بلا شك، وكانوا مخلصين، كانت لهم بطولات، أما على مستوى القيادة السياسية على الأقل (القائد الأعلى للقوات المسلحة)، فالأمر كان مختلفا وفقا لتصريحاته هو، والتي تتفق مع النتائج النهائية التي وصلت إليها المعارك. إذا كان الهدف من المعركة تحريك القضية والخروج من حالة اللا سلم واللا حرب على حسب تصريحات "السادات"، والتي يفهم منها أن المعركة تمهيد لعملية السلام.
ونتائج المعارك لا تحسب بالمعارك الجزئية، أو بمقدار التضحيات، أو الشجاعة التي يظهرها الأفراد، ولكنها تقاس بالنتائج النهائية ومآلات الأوضاع النهائية. للتبسيط، كمباريات كرة القدم، فهي لا تحسب بعدد الضربات الركنية أو الفرص الضائعة إنما بعدد الأهداف التي تحرزها في الشباك، وبعيدا عن مستوى الفريق وأدائه.
خامسا: النظر للحرب على أنها مجموعة معارك نظرة قاصرة جدا، فالحرب نوع من السياسية ولكن بأسلوب آخر، كما أن السياسية حرب من نوع آخر، فقد أسفرت الحرب عن عدة نتائج على المستوى السياسي والاقتصادي، فرفعت أسعار النفط وهو أمر كانت ترغب فيه أمريكا. لإيجاد غطاء نفطي للدولار بعد أن قام نيكسون في عام 71 بفصل الغطاء الذهبي عن الدولار، وهو ما عرف بسياسة البترودولار.
ساهمت في تليين الموقف الإسرائيلي ليقبل بعملية السلام التي ما كان يقبل بها الرأي العام الإسرائيلي لولا الحرب، والتي حققت لهم نصرا بلا حرب. وهو السلام الذي تم من خلاله اختراق العقلية العربية والمصرية بصفة خاصة جدا، وتغيير النظر إلى الصهاينة، بتحسين نظرة قطاع لا بأس به إلى الصهاينة، والنظر إلى أهل فلسطين بطريقة سيئة، ثم الترويج لأهل سيناء بأنهم يدورون بين الخيانة لصالح الصهاينة أو تجارة المخدرات.
أي أن عملية السلام أعادت صياغة تشكيل العقل
المصري تجاه العدو، وهو ما كان ليحدث لو استمرت حالة الحرب احتلال الصهاينة لسيناء، وما كان السلام ليستطيع أن يقدم على الطرف المصري لو لم يحقق نصرا معنويا على الكيان الصهيوني، يصبح به بطلا يستعيد شرعيته التي فقدها في حزيران/ يونيو، ويستطيع أن يسوق به لوهم السلام.
ومن ثم قامت حرب أكتوبر بثبتت النظام
العسكري في مصر وأعادت إنتاج شرعيته مرة أخرى، فمما لا شك فيه أن النظام العسكري الذي باع الوهم للأجيال الصغيرة أنه محارب الاحتلال، ومحرر البلاد، ومقاتل الصهاينة، والواقف في وجه أمريكا في الوقت الذي كان يأخذ معونة من الأمريكان، سقطت أوهامه تلك ومعها سقطت شرعيته بهزيمة حزيران/ يونيو 1967م.
ولأول مرة تخرج منذ 14 عام تخرج المظاهرات الحاشدة ضده هاتفة بسقوطه ومطالبة بمحاسبته، حيث خرجت المظاهرات في عام 1968 تقول: (لا صدقي ولا الغول.. عبد الناصر هو المسؤول) ووقتها بدلا من أن يتحمل الزعيم المسؤولية بشجاعة، كما ادعى في خطاب التنحي، أمر بضرب المتظاهرين بالطيران. وذلك أن قرار العسكر أننا لن نترك البلاد أي حكم البلاد والسيطرة على ثرواتها.
فكانت أول تظاهرات تخرج في بهذه الضخامة والخطورة منذ عام 1954 م. ومن وقتها بدأ التفكير في إنشاء سلاح الأمن المركزي.
المقصد أن هذا كان إعلان لحظة وفاة النظام العسكري، وهزيمة الفكرة الناصرية أو الاشتراكية أو الشيوعية أو القومية سمها ما شئت، اعتبارها فكرة جميلة أو قبيحة لا يهم هنا تقييمها ولكن الفكر الذي قام عليه النظام العسكري هزم. وسقطت شرعية النظام، ولم يكن هناك من فكر آخر في الساحة ينافسه سوى الفكرة الإسلامية، وقل فيها ما شئت أيضا فليس المقصد هنا الانتصار لها أو تقيمها.
ولكنها المنافس الجماهيري، وهي تحمل أيضا ذات المضامين من قتال الاستعمار ومحاربة الصهاينة وتحرير الأقصى، وهم لهم تاريخ نضالي فيه سابق على العسكر، وعرقلهم فيه العسكر ومنعهم منه كما هو ثابت في حرب فلسطين على الأقل. وبالتالي فمستوى القبول لها متاح جدا في وقت قصير.
الغرض أن الفكرة الإسلامية هي الفكرة القائمة في ذلك الوقت، والنظام قد سقطت هيبة قوته في وجه الجماهير. ولذا فإن السنوات الباقية كانت تهدف لأمرين التخلص من عبد الناصر لأنه قد وصل إلى نهاية الطريق، فلا يصلح لأن يؤثر في الجماهير في الداخل أو يغير في خطابه الشعبوي الذي يتاجر فيه بالعداء لأمريكا وإسرائيل، وهذا قد أدى دوره.
وعلى الطريق الآخر تم هزيمة الفكرة الإسلامية بكتاب "دعاة لا قضاة" لتفريغ الفكرة من مفهومها النضالي لبناء نظام على قواعد مختلفة.
ولذا قام السادات بانتحال الفكرة نفسها؛ فأطلق على نفسه الرئيس المؤمن، وأطلق على دولته لقب دولة العلم والإيمان، وكان حريصا على الظهور بمظهر التدين. ومع هذا لم يقض على المعتقلات فقد ظل أبناء التيار الإسلامي يخرجون على دفعات حتى منتصف عام 1975. ولما يفرج عنهم وهو عضو يمين بالمحكمة التي قضت بالإعدام على عبد القادر عودة وآخرين عقب تظاهرات عام 1954، وبعد الانقلاب على زميلهم العسكري اللواء محمد نجيب.
على أي حال كان وضع العسكر ككل حرج، فليست لديهم فكرة يقدمونها وليس عندهم أوهام يدجلون بها على الناس، فقد باع الزعيم كل الأوهام، وانكشفت مع الهزيمة ولم يعد أحد يصدقهم أو يحترمهم، والعسكر نفسه كان منقسما على نفسه وجرت أكثر من محاولة انقلب وقتها على السادات نعم بعضها كان ساذجا، ولكن الأوضاع لم تكن مستقرة.
وهنا جاءت لحظة 73 لتعيد الحياة مرة أخرى في النظام العسكري ليحكم بشرعية الحرب، فالسادات كان يلقب ببطل أكتوبر، وبعد كامب ديفيد صار بطل الحرب والسلام، ومبارك ظل يحكم 30 سنة باسم قائد الضربة الجوية.
وهكذا، فإن حرب أكتوبر هي التي ثبتت النظام العسكري لما يقرب من 40 سنة، واستطاعت استغفال جيل الشباب والجامعي بصفة خاصة الذي أفاق على هزيمة حزيران/ يونيو. وهو الأمر الذي احتاج جيلا جديدا من الشباب استيقظ في يناير 2011 على أن أمته في ذيل الأمم وأدناها نتيجة حكم العسكر.
وهكذا بعد كل هذا الزمن تظل الفكرتان تتصارعان فكرة الاستبداد والتبعية، واستلاب العقول بالأوهام يتزعمها العسكر، وفكرة الحرية والتحرر، وتنوير العقل ويتزعمها المسلمون، وفي هذه المرة قد ابتاع العسكر كل أوهامهم ولم يعد لهم شيء سوى الآلة العسكرية والقتل التي ستنتشر في ست ساعات حتى أنهم لن يتركوا البلد، ولن يجعلوها تنفع لكم مرة أخرى كما قالوا. كما قال مندوبهم، أو كما قال صبي الراقصة قبله بعامين: (هانجيب عاليها واطيها). فإما يستولون على البلاد والثروات، وإما يحرقوها.