قرابة ستّ سنوات على هروب المخلوع زين العابدين بن علي يوم 14 يناير 2011، وإن كانت مدّة قصيرة زمنيا لتقييم المسار السياسي وحتّى سلوك الفاعلين الكبار في المشهد إلاّ أنّها مكّنت المتابعين بدقّة لتفاصيل وعناوين الانتقال الديمقراطي التونسي من ملاحظة الكثير من المتغيّرات التي طرأت على المشهد لا فقط من الناحية الشكليّة والمضمونيّة فيما يتعلّق بجوهر نظام الحكم والصورة الظاهرة لإحداث القطيعة التاريخيّة والإبستيمولوجيّة مع الاستبداد فحسب، بل وعلى مستوى المخيال السياسي برمته من خلال حركة التطوّر السريعة التي طرأت على العقل والممارسة السياسية في البلاد.
وإذا كان الدستور التونسي الجديد وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة في أكثر من ثلاث محطّات مهمّة ومفصليّة في الانتقال السياسي ثمرة بارزة للقطيعة مع الاستبداد فإن اعتماد الحوار أسلوبا لإدارة الاختلاف من جهة والركون لسقف الدستور في هذه المرحلة الحساسة للحفاظ عليه أولا وللحفاظ على مكاسب الثورة ثانيا يحيل على عمليّة انتقال من مخيال سياسي عنوانه الاستبداد والإقصاء والتنافي إلى آخر عنوانه التعايش واللاّعنف وسقفه دستور نوّه به كلّ العالم.
لا شكّ أنّ وجود فاعلين سياسيين كبار في المشهد ومدى صلابتهم نظريا وتنظيميا ومحايثتهم للواقع من نقاط قوّة التجربة التونسيّة إذ لا ديمقراطيّة بدون مجتمع مدني قويّ ومجتمع سياسي قويّ أيضا، من هذا المبدأ أساسا كانت حركة التطوّر في حركة النهضة مهمّة ورئيسيّة لحماية المسار السياسي والديمقراطيّة الناشئة رغم عديد الصعوبات والعراقيل التي تعترضها غير أنّها حركة بسرعات مختلفة أربكت الكثيرين شكلا ومضمونا.
الغنوشي "سفير الإسلام الديمقراطي"
بقراءة كرونولوجيّة لما تنشره كبريات الصحف والمؤسسات الإعلاميّة الأجنبيّة عن حركة النهضة في الخارج خلال السنوات التي تلت هروب المخلوع يمكن الوقوف بوضوح على تغيّر لافت للانتباه في التعامل معها بعد أن كان في البداية مشوبا بالحذر وصار اليوم يصل حدّ التأكيد على دورها في صناعة التجربة والنموذج التونسي.
صحف محسوبة على اليمين وأخرى محسوبة على اليسار الغربي صارت اليوم تسير بوضوح لا فقط نحو التنويه بأهميّة ومركزيّة دور حركة النهضة في التجربة، بل وصارت تبرز الفروقات الجليّة والواضح بينها وبين بقيّة مكونات طيف ما يسمّى بـ"الإسلام السياسي" في المنطقة على أكثر من صعيد.
زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي صار بكلّ وضوح صورة رسميّة للحركة بالخارج لا فقط بكتاباته التي تمّت ترجمتها إلى عديد اللغات ولكن عبر تركيز واضح مع مواقفه وممارسته السياسيّة في الداخل ليتحوّل إلى ما يشبه "سفير الإسلام الديمقراطي" حسب بعض القراءات والتحاليل التي تعتبره واحدا من أكثر الشخصيات الإسلاميّة والسياسية تأثيرا في المنطقة.
النهضة "المختلفة"
الانبهار الخارجي الواضح بالتجربة التونسيّة وبحركة التطوّر السريعة التي طرأت على حركة النهضة لا يقتصر فقط على وسائل الإعلام بل أصبح موقفا معلنا من عدد كبير من زعماء العالم ومن الكثير من المنظمات الكبيرة ومراكز البحوث والدراسة التي تشتغل على تطوّر الأفكار وحتّى الإستراتيجيا.
"تونس تختلف عن داعش وعن بقيّة التجارب لأنّ فيها حركة النهضة"، هذا الموقف بات كثير التكرار في العديد من المحافل الدوليّة ومن الكثير من المتابعين للمشهد التونسي من الخارج وحتّى مراكز القرار الكبرى على غرار البرلمان الأوروبي والبرلمان البريطاني وغيرها باتت تعتبر أن حركة النهضة تجربة مختلفة عن بقيّة تجارب الإسلاميين في المنطقة بما يحيل على أنّها لا فقط تونسيّة المنشأ والمضمون بل أنّها قد نجحت إلى حدّ بعيد في تجاوز تلك الصورة القطيمة التي تحيل على تعارض وتضارب بين الإسلام والديمقراطيّة ونجحت في الفصل بين طبيعة الإسلام وقيمه وبين طبيعة الإرهاب وخطورته.
المتتبّع بوضوح للتقارير البحثية والدراسات السياسيّة الأجنبيّة يلاحظ بكلّ تأكيد أن حركة النهضة باتت مختلفة لا فقط عن باقي الحركات الإسلاميّة في المنطقة بل ومختلفة أيضا عن السابق من خلال حركة التطوّر السريعة التي عرفتها على مستوى فكري وتنظيمي سياسي بما إنعكس إيجابيا بوضوح على التجربة التونسيّة التي بات زعيم النهضة راشد الغنوشي في المحافل الدوليّة أحد أبرز رموزها وسفرائها في الخارج والداخل.
"التوافق" و"التخصّص" و"الإسلام الديمقراطي"
ثلاثة عناوين رئيسيّة طبعت تجربة حركة النهضة في السنوات التي تلت الثورة التونسيّة وشدّت إليها أنظار الداخل والخارج بقوّة، أوّلها التوافق الذي أظهر التزاما واضحا بالحفاظ على الدولة ومسار الانتقال الديمقراطي وعلى وجه الخصوص التزام بـ"اللاعنف" في الممارسة السياسيّة عبر خيار الحوار كوسيلة لإدارة الاختلاف بعيدا عن المغالبة والتنافي.
ثاني العناوين الرئيسيّة التي شدّت الانتباه إلى حركة النهضة كان "التخصّص" الذي أقرّته الحركة في مؤتمرها العاشر والذي فصلت عبره بين الدعوي والسياسي بشكل يقرّب الحزب أكثر من كلّ الفئات ويحوّله إلى "حزب خدماتي" يعمل لصالح الشعب انطلاقا من موقعه السياسي، وهو انتقال مهمّ يراعي خصوصيّة المرحلة الجديدة بعد الثورة والدستور الجديد للبلاد.
ثالث العناوين الرئيسيّة كان إعلان زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي عن نقده لما يسمّى بـ"الإسلام السياسي" معلنا ولادة "الإسلام الديمقراطي" الذي يظهر بوضوح عدم تناقض الإسلام مع قيم الديمقراطية من جهة، والتناقض الواضح بين قيم الإسلام وما تتبنّاه بعض الجماعات الجهاديّة والمتطرّفة من جهة أخرى.
* كاتب صحفي