تصدير: "علينا جميعا أن نفهم أن مثل هذا الاقتصاد لا يتطلب مالا وتقنيات فحسب، وإنما جوّا من الثقة وكثيرا من التضحية والتفاني، وحبّ العمل المتقن من كل الأطراف. كلها مواقف وتصرفات يجب أن نعيد اكتشافها من داخلنا، إذ لا يوجد للأسف أو لحسن الحظّ
مؤتمر لجلب القيم".
الرئيس
التونسي السابق محمد المنصف الرزوقي
كان تنظيم المؤتمر الدولي للاستثمار "تونس 2020" مناسبة وطنية لسجال عمومي كبير بين النخب المؤثرة في تشكيل الرأي العام وتوجيهه.
فهذا المؤتمر الذي يحمل شعار: "الطريق نحو الاندماج، الديمومة والفاعلية"، هو حدث وطني، بل حدث إقليمي له تداعيات هامة تتجاوز السياق المحلي التونسي.
على الصعيد الداخلي، تحتاج حكومة "الوحدة الوطنية" برئاسة نداء تونس إلى هذا المؤتمر؛ لتحقيق نوع من "شرعية الأداء" اللازمة لتقوية سلطتها المهترئة بفعل الاحتقان الاجتماعي المرتبط أساسا بمشروع الميزانية العامة للدولة.
أما على الصعيدين الإقليمي والدولي، فإن المآلات الواقعية للانتقال الديمقراطي التونسي -أو ما سُمّي بالاستثناء التونسي- يُمثّل أولوية من أوليات دول الجوار والفاعلين الكبار على الساحة العالمية، وذلك لأسباب ليست متشابهة بالضرورة.
ولمّا كان من المستبعد أن نشهد تغييرات جذرية في مستوى النظام الضريبي الخاص بأصحاب المهن الحرة، مثل الأطباء والمحامين والخبراء المحاسبين والصيادلة وغيرهم، ولمّا كان من المستبعد أيضا في المدى المنظور -حتى على افتراض وجود نية جادة لفعل ذلك- أن تنجح الحكومة في القضاء على الاقتصاد الموازي أو في فرض مشروع الميزانية على منظمة الأعراف، فإنّ المؤتمر الدولي للاستثمار يصبح فرصة الإنقاذ الأخيرة لهذه الحكومة وللأطراف التي تقف وراءها في الداخل والخارج.
سعت تونس من خلال هذا المؤتمر إلى تشجيع
الاستثمار الخارجي لتعويض النقص في الموارد نتيجة عجزها عن إصلاحات جبائية عادلة، ونتيجة محافظتها على المنوال التنموي البائس الموروث من عهد المخلوع.
لذلك عرضت تونس على المستثمرين أكثر من 64 مشروعا عموميا، 34 مشروعا مشتركا بين القطاعين العام والخاص، و44 مشروعا خاصا تتوزّع على 20 قطاعا حيويا.
وبلغت القيمة الجملية لهذه المشاريع المقترحة 67 مليار دينار. ولكنّ محصول المؤتمر لم يتجاوز نصف التوقعات، إذ وفّر لتونس 19 مليار دينار من الوعود الاستثمارية و15 مليار دينار من الاتفاقيات الاقتصادية. وهو ما يعني أنّ الحكومة قد نجحت "فقط" في توفير نصف الاستثمارات التي تحتاج إليها البلاد في السنوات الخمس المقبلة.
يمكننا مبدئيا أن نعتبر تحقيق الرقم الوارد أعلاه -في صورة وفاء المستثمرين والمانحين بتعهداتهم- نجاحا معتبرا لحكومة الوحدة الوطنية ولرهان التوافق بين العلمانيين والإسلاميين.
ويمكننا الحديث عن نجاح حكومي؛ لأنّ مناخ الاستثمار في تونس هو مناخ غير جاذب للاستثمار الخارجي. فبالإضافة إلى التهديدات الإرهابية وإلى الاحتقان الاجتماعي، نجد أنّ ترتيب تونس في المعايير الدولية للشفافية ومقاومة الفساد قد تراجع بأربعين نقطة منذ وصول نداء تونس إلى الحكم، كما أنّ "هيبة الدولة" -التي كانت عنصرا أساسيا في الخطاب الانتخابي للرئيس التونسي وحزبه- هي أبعد ما تكون عن أن تفرض نفسها على مختلف الفاعلين الجماعين في القطاعَين العام والخاص.
وإذا ما نظرنا إلى كل هذه العوامل الطاردة للاستثمار يمكننا أن نقول بأن المؤتمر قد نجح في تحقيق الحد الأدنى الذي يكفل للنظام أن يشتغل بصورة طبيعية.. ولكن في أي وجهة ولصالح من؟
يذهب أغلب المعارضين لهذا المؤتمر -وهم قوى قُمعت تحركاتهم الاحتجاجية في تعارض صارخ مع ما يُروّج له الحكّام في الخارج من تمتع التونسيين بحرية التظاهر والتنظم بما هما جزء جوهري من الاستثناء التونسي والانتقال الديمقراطي- إلى أنّ مؤتمر المانحين ليس إلا أداة لإنقاذ النظام الذي أعاد إنتاج المنظومة القديمة وخياراتها الاقتصادية والمجتمعية الكبرى.
كما أنهم يرون أنه جاء لتكريس تبعية تونس الوظيفية للمركز الغربي، خاصة تبعيتها لمستعمرها السابق
فرنسا.
وبصرف النظر عن رمزية انعقاد هذا المؤتمر تحت إشراف تونسي- فرنسي مشترك، وبصرف النظر عن غياب الولايات المتحدة والإمارات والعديد من الدول الصاعدة اقتصاديا، والمشكلة لما يُسمّى بـ"البريكس BRICS"، بصرف النظر عن تغييب المعارضة عن أعمال هذا المؤتمر ومنع التحركات الاحتجاجية الرافضة له، وبصرف النظر عن سعي تلك المعارضة إلى تشكيل لجنة برلمانية تكون ذات صلاحيات رقابية على الأموال التي وفّرها المؤتمر، فإنه لا مفرّ من طرح سؤال جوهري يتعلق بمدى فاعلية كل هذه الأموال في تحقيق انتعاشة اقتصادية حقيقية في ظل نظام يعمل على إعادة إنتاج شروط الفشل ذاتها، وذلك بالمحافظة على المنوال التنموي المأزوم من جهة خياراته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبرى؟
في ظل غياب "مخطط وطني للاستثمار"، وفي ظل انعدام برنامج للتنمية -على أساس الأفق المواطني الذي فتحته ثورة الحرية والكرامة لا على أساس منطق استمرارية الدولة الذي لن يكون سقفه إلا مراكمة التخلف والتبعية- وفي ظل هيمنة الميراث الدستوري -التجمعي بعقليته الزبونية ومنطقه الرّيعي وشبكاته الجهوية الأمنية- وفي ظل نظام عالمي لا يسمح بأي تغييرات جذرية في توزيع العمل على الصعيد الدولي، فمن المؤكد أنّ مؤتمر المانحين هو فرصة تاريخية للحكومة التونسية، أكثر مما هو فرصة تاريخية لتونس.
فلا شكّ في أنّ الأموال التي جلبها هذا المؤتمر ستخفف الكثير من حدة الأزمة الهيكيلية التي تعيشها الحكومة في ظل إصرارها على التحرك خارج أفق الثورة، ولكنّ هذه الانتعاشة لن تطول ما لم تصحبها إصلاحات قيمية ومؤسساتية وتشريعية حقيقية تتجاوز مستوى الدعاية الإعلامية الموجّهة للاستهلاك الخارجي حينا، والموضوعة للاستهلاك الانتخابي حينا آخر.
حتى لو تحدثنا بمنطق الحكومة، فإن نجاح أي إصلاح اقتصادي في ظل غياب رؤية إصلاحية شاملة ومعقلنة لمختلف القطاعات، هو أمر أقرب إلى "التأنقات اللفظية التي مدارها الفراغ" منه إلى منطق الواقع.
ولا شكّ في أن "حكومة الوحدة الوطنية" هي أبعد ما تكون عن توفير الشروط الموضوعية والقيمية لهذا الإصلاح، وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة تركيبتها وبطبيعة المصالح المادية والرمزية التي جاءت إلى السلطة لحمايتها.
وهو ما يعني استحالة حصول انفراج حقيقي في الوضع الاقتصادي فضلا عن حصول "معجزة اقتصادية تونسية" تستلهم تجارب الاقتصاديات الصاعدة.
فما هذا المؤتمر -في التحليل الأخير- إلا مسكّنا يضاف إلى جملة المسكّنات التي توفرها الجهات المانحة للمال وللتبعية معا، وهي مسكّنات لن تقضي على الداء، ولكنها ستنجح في تخفيف شعور عامة المواطنين به.. لكن إلى حين.