بحلول 14 كانون الثاني/ يناير 2017، تحتفل
تونس بمرور ست سنوات على بلوغ "
ثورة الياسمين" ثمارها، بإطاحة الرئيس السابق زين العابدين بن علي بعد نحو 24 سنة في السلطة، ولا يزال التونسيون يحملون كثيرا من الحنين إلى الأيام الأولى للثورة، رغم عدم القناعة بالوضع الحالي.
وفي 25 من الشهر ذاته، تحل الذكرى السادسة لانطلاق "ثورة 25 يناير" التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك بعد نحو 30 سنة في السلطة، والسؤال الذي يدور في أذهان غالبية
المصريين اليوم هو: هل أنجزت مصر في هذه السنوات الست ما يستحق التضحيات التي قدمها الشعب لتنجح الثورة؟
بدأت تونس أولى ثورات "
الربيع العربي" كرد فعل لسنوات عدة من القهر الاجتماعي والسياسي، وانتشرت شرارات الثورة في المنطقة حيث غيرت قواعد اللعبة السياسية.
تباين وجهات النظر
في تقرير أعدته صحيفة "الحياة"، فإن النظرة إلى وضع تونس اليوم تختلف بين من يراها قصة نجاح إذ أجريت الانتخابات بشفافية وأُنجز دستور ديموقراطي، وبين من يركز على الجانب السلبي كاغتيال شخصيتين سياسيتين يساريتين، والهجمات المتكررة على قوى الأمن، والأعمال الإرهابية ضد السياح، وحملات الحكومة بما فيها الاعتقالات العشوائية، وتزايد الخوف من تجريم التعبير عن الرأي والتظاهر.
ولكل من وجهتي النظر مبرراته، لكن في كل الأحوال هناك شعور عام بأنَّ شيئا جوهريا لا يزال مفقودا في تونس وبأن ثمة حاجة إلى إصلاح سريع خصوصا في مجالي الاقتصاد والأمن حتى يمكن للبلاد الاستمرار في نهجها الديموقراطي.
ضعف الأداء الاقتصادي
ويشير تقرير أصدره البنك الدولي في 2016 إلى أن الأداء الاقتصادي لا يزال ضعيفا والنمو الاقتصادي متدن في شكل لا يمكّن من إدخال تحسينات جوهرية على البطالة والفقر وفقدان العدالة في توزيع الدخل وسط اتساع للعجز المالي وعجز الحساب الجاري.
والدعوة التي وجهها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية دعمتها معظم الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وكان الهدف من المبادرة التخفيف من حدة الاختناقات السياسية وتأمين الزخم للإصلاحات الأكثر إلحاحا لتقوية الوضع الأمني وتحسين مناخ الأعمال والبدء بتحقيق نمو اقتصادي.
الوظائف وظروف المعيشة
وفي استطلاع للرأي أجراه المعهد الجمهوري الدولي في تونس في تموز/ يوليو 2016، رأى التونسيون أنّ أولوية الإنفاق الحكومي يجب أن تكون لإيجاد وظائف وتحسين مستوى المعيشة، حيث لا تزال مشكلة البطالة مستعصية على الحل بنسبة بلغت 15.4 في المئة، لكنها أعلى في شكل تفصيلي - 22.6 في المئة بين النساء و31.2 في المئة بين خريجي الجامعات و31.8 في المئة بين الشباب. ومما زاد الطين بلة تراجع قطاع السياحة بعد الهجمات الإرهابية والاستغناء عن كثير من العاملين فيه.
وأكثر الاقتراحات شعبية لتحسين الاقتصاد وإيجاد الوظائف هو إعادة هيكلة قوانين الاستثمار لتشجيع رواد الأعمال الشباب على تأسيس المشاريع، وهذا يحتاج إلى قروض ورخص وبناء مهارات إدارة المشاريع الخاصة لتدريب رواد الأعمال الشباب على كيفية التعامل مع تغيرات السوق بسرعة حتى لا تصبح مشاريعهم قصيرة الأمد. وهناك بادرة إيجابية إذ ثمة جهود لإيجاد قانون يدعم الشراكة بين القطاعين العام والخاص ومراجعة قانون الاستثمار الحالي، لكن الأمور تجري ببطء كبير.
لماذا ثورة مصر؟
في مصر وكي نستطيع تقويم المنجزات لا بد من السؤال أولا: لماذا حصلت الثورة أصلا، وهل كانت الأوضاع السائدة من السوء فكان لا بد من الثورة؟
عشية الثورة لم يكن ظاهر الأوضاع الاقتصادية في مصر سيئا، بل على العكس كانت مؤشرات الاقتصاد الكلي جيدة وتدعو إلى التفاؤل. فإجمالي الناتج المحلي كان ينمو بسبعة في المئة سنويا وحجم الاحتياطات الأجنبية تجاوز 35 بليون دولار، وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر أكثر من 11 بليون دولار سنويا، وسعر صرف الجنيه مستقر والسياحة في أوج انتعاشها.
مستويات الفقر
لكن النمو الاقتصادي في حقيقة الأمر لم يكن يشمل الجميع، وكان مبنيا على تشجيع الاستهلاك وليس الاستثمار ويتركز في مجموعة من الصناعات الكبيرة التي تعتمد على كثافة رأس المال مثل الطاقة والبتروكيماويات بدلا من الاستثمار في مشاريع توجد فرص عمل للعدد المتزايد من الشباب الذين يدخلون سوق العمل سنويا. وقدر البنك الدولي ارتفاع معدلات الفقر من 17 في المئة في 1999 إلى 25 في المئة في 2010.
وتسببت عدم ملاءمة الإدارة الاقتصادية وكثرة الممنوعات وانتشار الفساد والمحسوبية في توسع رقعة الاقتصاد غير الرسمي حتى قدرت قيمته بثلثي الاقتصاد الرسمي، الأمر الذي يعني أنَّ غالبية الشعب المصري كانت تشعر بإقصاء سياسي واقتصادي واجتماعي. لذلك كانت للثورة أسبابها الحقيقية.
هروب الاستثمارات
لكن حال القلق وعدم التأكد التي سادت الجو العام في مصر بعد الثورة، خصوصا في ظل عدم استقرار الوضع السياسي والانتقال غير السلس للسلطة وتراجع الأمن، كلها عوامل أدت إلى هروب رؤوس الأموال وانخفاض تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة وضرب السياحة، فتراجع حجم الاحتياطات الأجنبية لدى المصرف المركزي إلى أقل من النصف، ما أثر في شكل مباشر في استقرار الجنيه وانخفاضه إلى مستويات غير مسبوقة وانتعاش السوق السوداء.
وأخذ المصرف المركزي قرارا بتعويم الجنيه في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ولم يكن قرار التعويم في محله، فارتفعت الأسعار وفقدت العديد من السلع بما فيها الأدوية من الأسواق وأصبح الفقراء وذوو الدخل المحدود أكثر الشعب تضررا. ولا تزال الحكومة تستثمر في المشاريع الكبيرة والعملاقة من خلال القروض والهبات التي تحصل عليها بدلا من صرفها لإيجاد وظائف تستوعب الشباب الذين هم أكثر الفئات إحباطا من الثورة.
مجموعة إصلاحات
ووقعت مصر مع البنك الدولي في 2016 اتفاقا من ضمن برنامج إطار الشراكة القطرية للبنك، يقوم الأخير وفقها بمساعدة مصر على تطبيق مجموعة من الإصلاحات تخص تحسين إدارة الاقتصاد بما يشمل تحصيل الضرائب ودعم خلق الوظائف وإنشاء شبكة للضمان الاجتماعي. وإذا جرى تطبيق هذه الإصلاحات سيكون في مقدور مصر إعادة هيكلة الاقتصاد ليصبح النمو الاقتصادي أكثر شمولية ولا تعود الغالبية تشعر بالإقصاء.
إنّ جوهر التحدي الاقتصادي لمصر بعد الثورة هو في حقيقته تحد سياسي. والسؤال المهم هنا هو: هل تستطيع حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي أن تلتزم بتعهداتها مع البنك الدولي وتحارب الفساد والمحسوبية وتقلص الفقر من خلال تبني نموذج اقتصادي يؤمن الوظائف للشباب ويوجد شبكة رعاية اجتماعية؟ أم هل ستضطر إلى العودة إلى الأسلوب القديم حيث الأرباح والموارد تكون لفئات معينة ترتبط بالسلطة وقوى الجيش؟
الخيار الأخير بلا شك يناقض تعهدات الحكومة لدائنيها، لكن في الوقت ذاته ليس سهلا مصالح الجيش الذي تصدر الوضع السياسي لأكثر من 50 سنة كما أنَّ نتائج التفكيك لا يمكن الاستهانة بها. لذلك قد لا يكون مستغربا أن يسود عدم التأكد سنوات مقبلة كما ساد السنوات الست الأولى.