كانت مسيرة عظيمة (24-12-2016) من أجل الشهيد القسامي التونسي صانع الطائرات الذي اشتغل بصمت حتى لم يعرف أحد بوجوده إلا الموساد. والذين سارعوا بدفنه كأنه مسروق كانوا يعرفونه وأرادوا إخفاء الجريمة بسرعة، لكن نافذة الحرية المتاحة بفضل الثورة وحدها فضحت الجميع فاستدرك البعض دون الكلّ الفضيحة ونظموا المسيرة لرد الاعتبار ورفع الصوت بالانتماء الى القضية. وإنه مهما كان الاختراق الأمني موجعا فإن الشارع ليس مخترقا وأن القضية لم تمت في النفوس. لكن خلف رد الاعتبار للشهيد قرأت معنى ترتيب المشهد الداخلي أيضا وهذا الذي أحاول تبيانه في هذه الورقة البسيطة. فلقد تكلم كثيرون عن التضامن التونسي الفلسطيني وعن مركزية القضية في النضال الوطني وهو في تقديري حديث مكرور نسمعه منذ خمسين عاما لكنه لم يحم الشهيد.
حشد متنوع سياسيا لكن النهضة كانت الشارع فعلا
وصلت بعض التقديرات إلى أن الحضور وصل إلى نصف مليون مشارك ولكن الأكيد أن العدد فاق ربع المليون. لم يمكن حشدهم إلا بحزب النهضة الذي أعلن تعبئة عامة فهب أنصاره من كل أرجاء القطر إلى مدينة صفاقس ورغم أن الداعين كانوا كثرا إلا أن الحضور النهضوي كان طاغيا وأعتقد أن ذلك كان رسالة سياسية تتجاوز ظاهر الاحتفاء بالشهيد إلى الإشعار بوجود سياسي لترتيب القادم من الاستحقاقات السياسية.
كانت النقابة (الاتحاد) من الداعين للتظاهر لكن بخلاف المتوقع ظهر الحشد النقابي صغيرا ولم يفده الاستباق إلى الشارع فمجرد وصول الأمواج النهضوية ذاب الجميع.
تذكر ملاحظون كثر الاجتماع الحاشد الذي نظمته النهضة في رمضان 2013 والتي حسمت به اعتصام الرحيل المعارض لوجودها في الحكم في مرحلة التأسيس. وتذكروا أن النهضة لا تميل إلى تحريك الشارع (وشارعها بالتحديد) إلا في مواعيد حاسمة طبقا لأجندتها وترتيبها.
تذكر الجميع أيضا كل المسيرات المعارضة التي نظمت طيلة 2014 و2015 لأغراض مختلفة (كانت مطالب الثورة المشروعة محركها الرئيسي) وقورنت الأحجام في الشارع. وانتهى الجميع إلى أن لا أحد يملأ الشارع إلا النهضة.
استعراض القوة في الوقت والزمن الذي تختاره لتعلن خطواتها. لم تصدر عن مسيرة صفاقس إعلانات سياسية محددة ولكن الرسالة وضحت. على من يحاول تخريب الوضع في الداخل أو من يراقبه في الداخل والخارج أن يعيد حساباته مع الحزب وقيادته فالشارع ملك النهضة.
وقد زاد الأمر وضوحا بمظاهرة ضديدة قامت في باردو (العاصمة) في نفس التوقيت لاعتراض احتمالات العفو عن الإرهابيين العائدين، رغم أن تصريحات رسمية من أعلى مستوى لم تتحدث عن العفو بل عن المحاسبة طبقا لقانون الإرهاب. وقد تبين ضعف هذه المظاهرة وفشلها رغم الدعاية الإعلامية التي رافقتها.
الانتخابات البلدية قادمة
حجم الحضور لم يكن وحده دليلا على قوة السيطرة بل النفير الذي أطلق كشف تماسك الحزب وسهولة تمرير الأوامر داخله وسرعة استجابة منخرطيه وانصاره وتجاوبهم. وهي بروفة على الاستعداد للانتخابات القادمة. كان الجميع قبل المظاهرة يتحدث عن جهوزية حزب النهضة وتشتت خصومه من جميع الأطياف وجاءت المظاهرة لتؤكد التحليل وتعطيه مصداقية. لقد كان هذا واضحا منذ المؤتمر العاشر للحزب في ربيع 2016 لكنه الآن معطى قائم ويستدعي التفاوض على الصندوق. والسؤال عند المنشغلين بالعمل السياسي القانوني كيف نشارك مع النهضة أو كيف نواجهها في الصناديق.
عمل الإعلام الرسمي والخاص على تحريف النقاش نحو سبل مقاومة الإرهاب العائد، وهي حيرة قانونية لا يمكن حلّها في الشارع لكن التحريض في هذا الاتجاه يتهرب من حقيقة أن العمل السياسي يتقدم نحو الانتخابات وقضية الإرهابيين ستدخل كواليس القضاء، فلا يبقى لها الوزن السياسي الذي كان لها زمن الترويكا.
حضور النهضة في تكريم الشهيد (القائد الحمساوي) قطع الطريق على مسألة أخرى هي مسألة سن قانون تجريم التطبيع مع العدو. لقد ناورت النهضة عندما كانت أغلبية برلمانية في المجلس التأسيسي وأفلحت في عدم دسترة القانون.. فاتهمها خصومها وخاصة من اليسار الراديكالي والقوميين بالعمالة ووجدوا في ذلك دليلا على صحة القول بالمؤامرة الصهيونية والربيع العبري إلى آخر المعزوفة. ويبدو أن النهضة (وهذا محل شك بعد) لن تقع في المطب ثانية فحضورها وشعارات المظاهرة تدل على أنها حسمت أمرها في دعم القانون. وهو ما ذكر بمناورة قانون المناصفة في الانتخابات الذي وضع لإرباكها فقبلته ونجت من فخ سياسي كان سيكلفها الكثير.
فإذا سقط ملف إدانة الحزب بالتنصل من تجريم التطبيع وسقطت قضية الإعفاء عن الإرهابيين العائدين بإحالتهم إلى القضاء (قانون الإرهاب يشرع الإعدام) وهي مواضيع مفضلة لمعارضي النهضة (لحشرها في نفس الزوايا التي خاضت فيها انتخابات 2011 و2014) فلن يجد معارضوها ملفات يملؤون بها فراغ برامجهم الانتخابية التي ركزوا فيها دوما على سبل إفشال النهضة لا على سبل منافستها. وهذا الأمر (غياب برامج الخصوم وتشتتهم مقابل تماسك النهضة وحيويتها في الميدان) يؤشر على نتائج الانتخابات البلدية في مرحلة أولى ثم على ما يليها من الاستحقاقات النيابية والرئاسية في 2019.
وأعتقد الآن أن النهضة في الموقع الذي يسمح لها بتحديد تاريخ الانتخابات وفرضه على اللجنة وإنهاء التنصل من المواعيد إلا أن يحدث في البلد حادث يتجاوز في خطره الجميع، إذ مازلت تظهر بين الفينة والأخرى أحاديث غير رسمية عن ماكينة قادرة على الاشتغال وجعل الدم للركب. وإذا حدث ذلك فلن يكون حزب النهضة هو الخاسر الوحيد، بل إن البلد سيخسر نفسه. من هنا تكون مظاهرة النهضة رسالة إلى الخارج أيضا.
تونس تحت المجهر
هذا ليس اكتشافا جديدا فالبلد الذي أطلق الثورة حظي بكل الاهتمام والمتابعة والتنكيل. ومداخل الإضرار به لا تزال مفتوحة والخطر قائم على الجميع. لكن بدون طرف داخلي يستجيب للمناورة الخارجية ويشارك فيها لن يجد الخارج وسيلة كافية لإرباك الوضع. والإدارة الأمريكية الجديدة نفسها قد لا تغير سياسة الديمقراطيين في البحث عن نجاح شكلي لديمقراطية في بلد عربي (الخيار المصري يتحول إلى عبء ثقيل غير قابل للحل). فضلا على أن المستعمر القديم (فرنسا) يفرك يديه لسوق استثمارية قريبة ورخيصة حرص على تهدئتها وإبعاد الشركاء عنها لتظل حديقته الخلفية ومتنفسه في أزماته في أوروبا.
هنا تظهر النهضة في الصورة. الحديث عن مستقبل الوضع السياسي في تونس يجب أن يمر بالحزب الأقوى. فهو الشريك الأثقل وزنا في السلم كما في الحرب. فأمر الشارع محسوم في التهدئة وفي التثوير. ولا بد لكل شريك خارجي مهما كانت خططه أن يأخذ هذا الوزن بعين الاعتبار وأن يلبي جزءا كبيرا من مطالب النهضة في الحكم ولا سبيل إلى عودة الاحتجاج عليها كما كان الأمر في زمن الترويكا. ولو بعشر جوائز دولية للنقابة اليسارية كتبت بعد مؤتمر النهضة (مايو 2016) أن النهضة تحمل البلد حيث تريد وأعتقد أن سوء تقدير خصومها لقوتها يفتح لها الطريق. ولا ذنب لها في ضعف خصومها فتلك لعبة السياسة.