المقدمة
مع كل ذكرى وحدث يتعلق بالثورة يتجدد الحديث عن الحركة الإسلامية عموما، ومن منها شارك في الثورة ومن لم يشارك، ويكثر هذا الحديث عن فريقين على وجه الخصوص (الإخوان، السلفيون). وقد أثار مؤخرا تصريح صحفي لأحد أعضاء الدعوة
السلفية بالإسكندرية بخصوص تيران وصنافير؛ حفيظة الكثيرين من أبناء الشعب
المصري، وبدلا من الكلام عن شخص الكاتب أو جماعته التي ينتمي إليها.. توسع ليشمل كل المنتسبين للسلفية!! وقد أذاعت قناة الحوار الفضائية تقريرا عن رأي الشارع المصري في هذا التصريح الذي قال فيه صاحبه: "لا مانع من إعطاء جزيرتي "تيران وصنافير" للسعودية إذا كان ذلك مصلحة للأمة الإسلامية". وقد لاحظت في التقرير هجوما شديدا على مسمى السلفية والسلفيين، فآثرت أن أوضح من خلال هذا المقال حقيقة السلفية وخريطة السلفيين في مصر، عسى أن يساهم ذلك في ضبط الأمور ووضعها في نصابها الصحيح.
تعريف السلفية
السلفية نسبة إلى السلف الصالح، وهم أهل القرون الثلاثة المفضلة، كما جاء في الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". فمن سار على نهجهم واقتفى أثرهم.. فهو سلفي.
وهي في حقيقتها تدعو إلى الإسلام الصافي النقي من أدران الشرك والخرافات والبدع والمنكرات، وتعزز في شخصية المسلم مفهوم الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين، ونبذ التعصب للأشخاص والأسماء واللافتات.
وحيث إنه ليس مقالا استقصائيا، فسأكتفي بالحديث عن خمسة مسميات رئيسة تعبر عن السلفية في مصر.
المَداخلة
وهي تسير على منهج وطريقة شيخ سعودي اسمه ربيع بن هادي المدخلي، ويعتبرونه إمام العصر ومجدد الدين وحامل لواء السنة والجماعة، والمدخلي هذا لا يرى في الحركات الإسلامية المعاصرة خيرا يُذكر، وديدنه هو الجرح والتشهير بكل جماعة أو داعية لا يسير على دربه؛ هو وشيخه الإثيوبي الأصل محمد أمان الجامي.
أشهر رموزهم في مصر على الإطلاق هو محمد سعيد رسلان الذي يخطب ويُدرّس في إحدى مساجد المنوفية، ويليه في الشهرة محمود لطفي عامر ومحمود الرضواني وحسن عبد الوهاب البنا وخالد عثمان (أبو عبد الأعلى) وعلي الوصيفي، وكان معهم كذلك أسامة القوصي الذي تغير كثيرا وابتعد عنهم.
هذه المدرسة ترفض كل صور المشاركات السياسية، وتنقم على كل الحركات الإسلامية التغييرية. وبالطبع هم من أشد خصوم فكرة الثورة على الحاكم (أيّ حاكم) طالما أنه متغلب ويسمي نفسه بأسماء المسلمين. والعجيب أنهم أعلنوا مؤخرا دعمهم وتأييدهم لانقلاب حفتر في ليبيا، حيث من المفترض أن ينأوا بأنفسهم عن هذه المعركة برمتها، وفكرتهم قائمة على استدعاء نصوص الوحي التي اختلف العلماء في صحة تنزيلها على حكام بني أمية فمن بعدهم، لينزلوها هم على أمثال القذافي ومبارك وبن علي والسيسي وحفتر!!
البراهمة
وهذا المسمى اختصارا لما يسمونه "الدعوة السلفية بالإسكندرية" ويمثلها حزب النور، وسببها أن شيخهم ياسر برهامي هو الأكثر حديثا في الشأن السياسي، وهو المسيطر، منفردا بدعم تلاميذه، على القرارات المصيرية داخل الدعوة والحزب، رغم وجود أسماء أخرى بارزة، مثل الشيخين محمد إسماعيل المقدم وأحمد فريد، وقد تركهم الشيخ سعيد عبد العظيم بعد مواقفهم الرافضة لوجود أحد من أبناء الحركة الإسلامية في الحكم. وفي الوقت الذي أظهر فيه برهامي دعمه وتأييده للانقلاب على الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي، بل وشرعن قتل السيسي للمعتصمين والمتظاهرين اعتراضا على الانقلاب، التزم الشيخان المقدم وفريد الصمت ولم يظهر إلى الآن حقيقة موقفهما مما حدث في مصر، وقد يكون ظهور أحمد فريد مع برهامي في مؤتمر دعم دستور السيسي دليلا على اتفاقه معه في هذا المسار، علما بأنني كنت أعلم يقينا أن هناك خلافا كبيرا بينهما وبين برهامي في طريقة إدارة الدعوة والحزب قبل انقلاب 2013.
لكن العجيب في شأن هذه المدرسة أنهم متفقون في كتاباتهم وتنظيراتهم على عدم شرعية الحاكم الذي يرفض التحاكم للشريعة، ووصل الأمر عند بعضهم إلى حد التصريح بكفره وخروجه من الإسلام، وأكثرهم تصريحا وتوضيحا هو ياسر برهامي نفسه كما في كتابيه "فضل الغني الحميد" و"المِنَّة.. شرح اعتقاد أهل السنة". إلا أنك حينما تريد تنزيل ذلك على الواقع تجد تناقضا غريبا!! فتراهم وقفوا في وجه حازم أبو إسماعيل الذي أعلن صراحة وجوب التحاكم في مصر للشريعة الإسلامية، كما أنهم فعلوا مع الدكتور محمد مرسي مالم يفعلوا منه مثقال ذرة مع مبارك والسيسي رغم انتماء الدكتور مرسي للحركة الإسلامية التي تريد العودة بمصر للتحاكم للإسلام.
وقد تكلمت بشيء من التفصيل عن لسان المداخلة الأكبر في مصر (محمد سعيد رسلان) وعن محتكر سلفية الإسكندرية (ياسر برهامي) في مقال خاص بعنوان "سلفية ولي الأمر.. رجال كل العصور".
العلمية
هذا الفصيل من السلفيين انشغلوا فقط بالعلم والدعوة، وليس لهم تأثير ولا تدخل يذكر في الشأن السياسي - ومن ثَمَّ الثورة وما تبعها- ورموزه كُثُر في الحقيقة، إلا أن أبرزهم المشايخ (أبو إسحاق الحويني – مصطفى العدوي – محمد حسان – محمد حسين يعقوب)، لكنهم ليسوا على درجة واحدة في التعاطي مع الأحداث، فمنهم من لا يظهر إلا دفاعا عن الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة مهما كانت ظالمة، ومنهم من لا يدخل ملعب السياسة أصلا، ومنهم من يظل يلمح من بعيد لحرمة الظلم ووجوب العدل دون التنزيل الواقعي المفهوم، ومنهم من يمس بعض المسائل الظاهرة والبارزة التي يصعب تمريرها دون تعليق منهم، إلا أنهم متفقون على عدم الوصول للدرجة التي تُغلق فيها منابرهم الدعوية أو التعليمية، فضلا عن تعرضهم للسجن أو الاعتقال.
هذه المدرسة تتبع في الجملة عددا من الرموز السلفية الكبيرة والمشهورة، مثل المشايخ (عبد العزيز بن باز – محمد صالح العثيمين – محمد ناصر الدين الألباني) عليهم جميعا رحمة الله، وهم كذلك في الجملة يرون أن التحركات الجماهيرية العشوائية ضد الحكام تعتبر فتنة لا ينبغي المشاركة فيها ولا دعمها، كما يرفضون جرائم الحكام واعتداءاتهم على الشعوب، لكنهم ليس لهم منهج واضح في كيفية تغيير أوضاع المسلمين البئيسة التي يعيشونها منذ سقوط دولة الخلافة وإلى الآن، ورغم ذلك فقد تكون هذه المدرسة هي الأكثر جمهورا وأتباعا داخل التيار السلفي.
الثورية المنظمة
والظاهر لي أنهم ثلاثة تجمعات رئيسة:
- حزب الأصالة الذي قام بتأسيسه اللواء عادل عبد المقصود بمعاونة أخيه الشيخ الدكتور محمد عبد المقصود، ويرأسه حاليا المهندس إيهاب شيحة، والحزب من مكونات التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب.
- حزب الإصلاح الذي يرأسه الشيخ الدكتور عطية عدلان، ويعتبر الدكتور عطية ومعه آخرون من مشايخ محافظة البحيرة هم أبرز رموز الحركة التي ينتمي إليها حزب الإصلاح، وهو كذلك عضو التحالف.
- الجبهة السلفية التي أسسها الشيخان الدكتور أشرف عبد المنعم والدكتور خالد سعيد ومجموعة من الرموز الشبابية، ويعتبر الشيخ رفاعي سرور رحمه الله الاب الروحي لها، كما يعتبر الأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل هو المعبر عن مشروعها السياسي. ويتشرف كاتب هذه السطور أنه أحد أعضائها.
وثلاثتهم متفقون على الانتماء العام للسلفية دون حكرها على أسماء أو مشايخ معينين، ويشتركون مع السلفية العلمية في تقدير واحترام العلماء (ابن باز - ابن عثيمين - الألباني)، كما أنهم متفقون على المشاركة في ثورة يناير ودعمها وتأييدها؛ لأنهم أصلا يرون وجوب إسقاط أي حاكم رافض أن تكون الشريعة مرجعا للحكم، وإن كان ثمة خلاف بين هذه الكيانات فهو ما قد حصل أيام حكم المجلس العسكري بعد تنحي مبارك، حيث جنح الحزبان للمعارضة الهادئة بينما اتجهت الجبهة للتصعيد المستمر ضده.
الثورية السائلة
وهم لا يختلفون كثيرا عن الفريق السابق، إلا أنهم لم ينتظموا في عمل جماعي (وإن حاول بعضهم ذلك). ويعتبر من أبرز رموز هذا الفريق الدكتور حسام أبو البخاري، المهندس خالد حربي، المهندس حامد مشعل، وآخرون.
وجملة الفريقين الرابع والخامس برموزهم المذكورين وغير المذكورين (كالشيخ فوزي السعيد والدكتور سيد العربي) قد تعرضوا للبلاء على يد الأجهزة الأمنية في عهد مبارك، وما زالوا على نفس الحال في ظل انقلاب السيسي، فهم بين معتقل ومطارد ومحكوم بالإعدام وغيره من الأحكام الجائرة، إضافة إلى عدد من الشهداء الذين سبقوا إلى الله أثناء مشاركتهم في الفعاليات الثورية المتعددة.
وقبل أن أختم مقالتي أود التأكيد على أني لم أقصد الاستقصاء، فهناك فصائل لم أتحدث عنها رغم انتمائها للفكرة السلفية في الجملة، كالقطبيين مثلا وهم أتباع الشيخ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله، رغم مشاركتهم في الثورة ومناصرتهم للأستاذ حازم أبو إسماعيل، كما أن تيار السلفية الجهادية محسوب أيضا على السلفيين.
وكذلك هناك رموز سلفية وقامات علمية ودعوية كبيرة شاركَت في الثورة، ووقفت بعدها ضد المجلس العسكري، آثرت عدم الحديث عنهم لاعتبارات أمنية.
وبهذا يتضح أن السلفية في مصر ليست شيئا واحدا، ولا ينبغي أن نحمّل فصيلا منهم جرائم أو أخطاء فصيل آخر.