يتوجه الشعب التركي في 16 نيسان/ أبريل المقبل إلى صناديق الاقتراع، للإدلاء بأصواتهم بقبول أو رفض 18 تعديلا على دستور البلاد، أبرزها تغيير النظام الجمهوري من البرلماني إلى النظام الرئاسي، في مقاربة مع أنظمة أخرى مثل فرنسا والولايات المتحدة، حيث لا يوجد منصب لرئيس الوزراء، مع توسيع سلطات رئيس الجمهورية، الذي سيراقب أعماله البرلمان.
ورغم وجود حالة إجماع في
تركيا على ضرورة تعديل دستور البلاد الذي صاغه قادة الانقلاب العسكري الدموي عام1980، وأجريت عليه مشارط التعديل لأكثر من 100 مرة طوال الخمسة عشر عاما الماضية، إلا أن التعديل الجديد يأتي في ظل تعقد الخيوط على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.
ففي الداخل، ما زالت تركيا تتعافى من آثار انقلاب عسكري فاشل العام الماضي، ومن انقسام سياسي حول روح التعديلات
الدستورية بتغيير نظام الحكم من برلماني لرئاسي، مع أن انتخاب الرئيس رجب طيب
أردوغان عام 2015 كان مباشرة من الشعب، تعبيرا عن روح النظام الرئاسي المزمع تطبيقه، كذلك يتفاقم الصراع مع حزب العمال الكردستاني ونظيره السوري، وتنظيم داعش، على الحدود وفي الداخل التركي، مع وجود ثلاثة ملايين لاجئ سوري على الأراضي التركية.
على المستوى الإقليمي، يستنزف الصراع السوري العراقي، بأطرافه الدولية، أعصاب تركيا، التي تراقب عن كثب محاولات دولية - من أقرب شركاء أنقرة - لإقامة كيان كردي على حدودها، كذلك أدى فشل الربيع العربي وعودة الدولة العميقة في مصر وسوريا وليبيا واليمن والعراق، إلى خسارة رهانات تركيا على وجود ظهير عربي حليف لها في مواجهة الترتيبات الغربية للمنطقة، وهو ما تسبب أيضا في خسائر كبيرة للاقتصاد التركي، الذي كان يتوجه جزء كبير من إنتاجه تصديرا إلى هذه الدول.
كما لم تجد أنقره التأييد المتوقع من أوروبا - الشريك الاقتصادي الكبير - لتركيا في مواجهة عمليات حزب العمال الكردستاني، والأهم وهو أساس الاختلاف، عدم دعم تركيا في ملف الانقلاب العسكري الفاشل، وتسويف أو تعميق فجوة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، التي مر على طلبها أكثر من 54 عاما.
وزاد الطين بلة الرفض الأوربي الفاضح للتعديلات الدستورية التركية، واعتبار الأمر وكأنه شأن أوروبي داخلي وليس تركيا خالصا، ولعل هذا ما يفسر تلك الخشونة في التصريحات التركية أمام المواقف الأوروبية، وإبدائها مواقف مبطنة بالاستغناء عن الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني هو الآخر من خطر التفكك بعد خروج بريطانيا منه، وبوادر تكرار الأمر مع دول أخرى.
مقاربة تاريخية
ولربما تنبع رمزية التعديلات الدستورية أنها تأتي في لحظة تاريخية هامة، وهي مرور قرن من الزمان على تأسيس الجمهورية التركية الأولى، وبداية الجمهورية الثانية، التي يتوقع أن تبدأ بعد استفتاء 16 نيسان/ إبريل المقبل.
وعند البحث في تاريخ تركيا الحديث، نجد أنه يبدأ وينتهي عند الجيش. فمنذ تأسيسها في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1923، فرض الجيش وصايته على البلاد والعباد. وبينما كان المؤسس مصطفى كمال أتاتورك يسير بخطى واثقة نحو بناء دولته الجديدة، كان في الوقت نفسه يفتح بابا لصراع مرير يمتد بعمر الدولة الوليدة، يتميز بالخشونة والعنف في أغلبه.
حوّل أتاتورك بوصلته قلبا وقالبا تجاه الغرب، قاطعا كل أواصر الصلة بالتراث العثماني، الممتد لستة قرون، مستثمرا تاريخه النضالي في حرب الاستقلال، عندما قاد جانبا من عمليات تحرير أجزاء كبيرة من البلاد من الاحتلال الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، وحافظ على حدود الدولة التركية بشكلها الحالي.
غير أتاتورك حروف اللغة من العربية إلى اللاتينية، وأجبر المواطنين بالقوة على خلع الطربوش التركي المعروف، وارتداء القبعة الأوروبية، ومنع ارتداء الحجاب، وجعل التركية لغة الأذان وقراءة القران، ولم يعترف إلا بالهوية التركية، متجاهلا وجود أقليات وثقافات أخرى عاشت قرونا بحرية داخل حدود الدولة العثمانية، واختارت البقاء في أحضان الدولة الجديدة، رافعا شعار "سعيد من قال أنا تركي"، ومطبقا مبادئ العلمانية اللائكية الفرنسية على شعب عرف بعمق ارتباطه بالدين.
حكم أتاتورك البلاد بحزب واحد هو الشعب الجمهوري، ولم يسمح بالتعدية الحزبية، ومع منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، أضطر خليفته عصمت إينونوإلى الاستجابة لتغير الظروف السياسية في العالم فسمح بتعدد الأحزاب، ليفوز الحزب الديموقراطي الذي أسسه عدنان مندريس بأول انتخابات حرة في البلاد، عام 1950.
حاول مندريس التصالح مع تراث الدولة التركية والتخفيف من شدة القبضة العلمانية على الشعب، فأعاد الأذان بالعربية، وسمح بافتتاح أول معهد لتدريس علوم الشريعة ومراكز القرآن الكريم، ونفذ حملة لتطوير الزراعة والصناعة والتعليم.
لم يمر زمن طويل حتى اتهم عدنان مندريس بمحاولة الانقلاب على هوية تركيا العلمانية، وشهدت البلاد اضطرابات بسبب هذه الاتهامات، وفي صباح 27 أيار/ مايو 1960 تحرك الجيش التركي لينفذ أول انقلاب عسكري في العهد الجمهوري.
حاصرت الدبابات مبنى البرلمان، وجُمد نشاط الحزب الديموقراطي الحاكم، وأُعلنت الأحكام العرفية، وانتهت أولى التجارب الديمقراطية في تركيا بإعدام مندريس وبعض رفاقه، وسجن رئيس الجمهورية جلال بايار مدى الحياة.
كانت تجربة مندريس بداية التدخل المباشر من جانب الجيش في الحياة السياسية، والسيطرة على الفضاء العام، من خلال تأسيس مجلس الأمن القومي عقب الانقلاب، وأصبح القلب الصلب لكل الانقلابات والتدخلات العسكرية التالية في تركيا.
شهدت تركيا بعد إعدام مندريس عهدا غير مستقر تميز بالركود الاقتصادي والاضطراب الأمني والسياسي، فقد انتشرت الإضرابات العمالية والطلابية بمختلف اتجاهاتها السياسية، يسارية ويمينية وإسلامية، وتحولت الشوارع لساحات عنف بين الجميع، وهو ما أعاد الدبابات إلى الشوارع مجددا بانقلاب عام 1971 على سليمان ديميريل، ثم عام 1980، وهو الانقلاب الأعنف والأخطر في تاريخ تركيا والذي صاغ شكل الحياة في تركيا خلال العقود الثلاثة الماضية.
كانت نتائج انقلاب عام 1980 كارثية، حصيلتها نحو 650 ألف معتقل، وأحكام بالإعدام على 517 شخصا، وفصل 30 ألفا من أعمالهم، وتجريد 14 ألف مواطن من الجنسية التركية، وترحيل 30 ألفا آخرين خارج البلاد، كما قتل المئات في ظروف غامضة أو تحت التعذيب، مع حبس عشرات الصحفيين ومنع أكثر من 900 فيلم من العرض السينمائي.
تكرر الصدام مجددا في انقلاب عام 1997، عندما قرر مجلس الأمن القومي التركي، صاحب النفوذ الواسع وقتها، عرقلة تجربة زعيم حزب الرفاة نجم الدين أربكان في الحكم عبر انقلاب أبيض، حُظر بعدها حزب الرفاة بحكم قضائي، بتهمة السعي إلى تطبيق الشريعة وإقامة نظام رجعي، ودخل أربكان السجن مع مجموعة من قادة حزبه، لمدد تراوحت ما بين خمس إلى 10 سنوات.
هزات التغيير
في 17 من أيلول/ سبتمبر عام 1999 تعرضت مدينة إسطنبول ومناطق أخرى لزلزال عنيف، دمر أكثر من 300 ألف مبنى ومنزل، إضافة إلى عدد من المناطق الصناعية، وقتل فيه الآلاف، وكانت تقديرات الخسائر الاقتصادية تشير إلى أنها نحو خمسين مليار دولار.
ترافق الزلزال مع انهيار شبه تام للعملة الوطنية الليرة، وفشل ذريع لكل الحكومات الائتلافية التي شهدتها البلاد منذ انقلاب عام 1980 في إنعاش الاقتصاد المتداعي، مع تململ شديد من الشعب تجاه أوضاعه المهترئة، التي تسببت فيها السيطرة الحديدية للجيش على شؤون البلاد.
في هذا الوقت، كانت هناك عملية ولادة لتنظيم سياسي جديد، جاء من رحم الحركة الإسلامية التركية، التي خاضت مرارات الحظر وإغلاق أحزابها وسجن قيادييها، منذ دخلت المعترك السياسي في ستينيات القرن الماضي، تحت عناوين أحزاب السلامة الوطنية والرفاه والفضيلة، بقيادة نجم الدين أربكان، والذي نجح ومن معه من قيادات شابة في تقديم نموذج مختلف للمواطن التركي في إدارة البلديات وخاصة مدينة إسطنبول، ذات المشاكل المستعصية التي ورثتها من الحكومات التركية السابقة.
كسب العدالة والتنمية ثقة الناخب التركي، وفاز بالأغلبية في البرلمان، وشكل الحكومة وحده للمرة الأولى، وبدأ يتلمس أولى خطواته تجاه حل الأزمة الاقتصادية بالبلاد.
أثمرت خطة إنعاش الاقتصاد التركي التي نفذها العدالة والتنمية، وحققت طفرات نمو ملحوظة، فارتفع النّاتج القومي الإجمالي من نحو 230 مليار دولار عام 2002، إلى نحو 820 مليار دولار خلال عام 2013، كما زادت قيمة الصّادرات من 36 مليار دولار إلى أكثر من 150 مليار دولار. وتراجعت نسبة الدّين العام مقارنة بالدّخل القومي من 74 في المئة إلى 36 في المئة، واستطاعت أنقرة ولأول مرة منذ أكثر من 50 عاماً؛ سداد كافة ديونها لصندوق النقد الدولي، بل وتحولت إلى إحدى الدول الداعمة ماليا للصندوق.
كما نجح العدالة والتنمية في فتح ملفات شائكة تسببت في شلالات للدماء في البلاد، مثل حرية الأقليات كالأكراد في الاعتراف بثقافتهم ولغتهم، وحق السيدات في ارتداء الحجاب في الجامعات وتولي الوظائف العامة، وإعادة حقوق لضحايا الانقلابات السابقة، وهي ملفات جرى فيها ماء كثير.
صدام جديد
شجع الإنجاز الاقتصادي للعدالة والتنمية، والذي لمسه المواطن التركي على التقدم بترشيح عبد الله غول القيادي في العدالة والتنمية لمنصب رئيس البلاد في انتخابات 2007، وهو ما لم يعجب قيادة الأركان التركية التي أصدرت بيانا على موقعها على الإنترنت تحذر فيه من قرار الترشيح، لأنه يهدد علمانية الدولة التي يحميها الجيش، فيما عرف بانقلاب الإنترنت، وسرعان ما شن رئيس الوزراء وقتها رجب طيب أردوغان هجوما على البيان، مؤكدا أن الحكومة هي المسؤولة عن الحفاظ على علمانية الدولة وليس الجيش الذي يخضع لسلطة الحكومة... رشح غول وفاز وكان أول رئيس ذو خلفية إسلامية للبلاد، انتهت الأزمة ولم تنتهي المحاولات.
كانت طبيعة ما عرف بمحاولة انقلاب الإنترنت أحد مؤشرات التحول في الصراع بين الجيش وحكومة العدالة والتنمية، من استخدام الأسلوب الخشن والقوة المسلحة إلى ساحات القضاء والبرلمان. بعدما قلمت أظافر العسكر دستوريا وسياسيا وقضائيا، وسدت أكثر أدوات نفوذه التي تمتع بها طويلا على الحكومات التركية السابقة، من خلال تعديلات الدستور وعدد من القوانين التي كانت تضمن للجيش التدخل في شؤون الحكومات وتنفيذ انقلابات عسكرية، وكانت محور عمل حكومات العدالة والتنمية.
ويرصد البعض أن العسكر تدخل في القرار السياسي نحو 50 مرة بشكل تصريحات أو بيانات عسكرية أو بمذكرات أو باعتلائه الحكم بالانقلابات من 40 إلى 50 مرة طوال تاريخ الدولة التركية.
عراقيل مستمرة
طوال وجود العدالة والتنمية في الحكم منذ سنته الأولى لم تتوقف محاولات عرقلته داخليا أو خارجيا، ففي عام 2008 تفجرت عدة قضايا اتهم فيها قيادات من المؤسسة العسكرية والأمنية السابقين أو ممن ما زالوا في الخدمة، بتدبير محاولات انقلابية على الحكومة المنتخبة، تحت نفس الشعارات التي نفذت بها الانقلابات السابقة، وهي استشعار الخطر على هوية الدولة العلمانية وحمايتها من الرجعية الإسلامية، واتهم العشرات من قادة الجيش بأنهم كانوا يحضرون إلى انقلابات.
وكانت قمة هذه المحاولات في مساء 15 من شهر حزيران/ يونيو من عام 2016، عندما فوجئ الأتراك بانقلاب عسكري، شارك فيه العشرات من القادة الكبار في مختلف تشكيلات الجيش التركي، لم يستمر الانقلاب أكثر من 12 ساعة، بعد استجابة الشعب التركي لدعوة الرئيس رجب طيب أردوجان النزول إلى الشوارع ومواجهة الانقلابيين، أعلن بعدها فشل الانقلاب.
كان الانقلاب خطيرا ومنظما بدقة، وكان في حالة نجاحه سيمثل نكوثا خطيرا على تركيا لعقود قادمة.
اليوم تبدو تركيا وقد تحررت بشكل شبه كامل من إرث التأسيس الأول، تتجه إلى مستقبل جديد، يشهد فيه العالم سيولة في كل أركانه، ولا يعرف متى ولا كيف سيتم إعادة رسم خرائطه الجديدة، بينما تحاول تركيا التصالح مع نفسها، وإعادة الحقوق لشرائح كبيرة من الشعب التركي، تعرضوا لهضم حقوقهم طوال القرن الماضي، كالأكراد والمحجبات والإسلاميين. في وقت يبدو فيه للعيان حجم الفاتورة الباهظة التي تدفعها بعض دول الجوار التركي لاستمرار نفس سياسة الهيمنة والوصاية على الشعوب في العالم العربي.
لكن الأمر المؤكد بالنسبة لتركيا أنها تكمل الآن مع التاريخ دورة كاملة، عمرها قرن من الزمن، في الحكم والسياسة والاقتصاد، وتعود إلى رشدها، وتتصالح مع ماضيها وتقفز لاستعادة موقع حفظته لها الجغرافيا في خريطة العالم.