من الظواهر البارزة في عالم اليوم، تحول نمط القيادة السياسية القائمة على النجاح والإنجاز والمثابرة إلى أيقونة يتم الاقتداء بها في بعض الحالات؛ عندما تتوفر بعض مقومات القيادة، لا سيما في حالة تحقيق الانتقال بالمجتمعات من طور إلى آخر، أو ترسيخ قيم تتجاوز حدود بلد القائد المعني، كما في تجارب "لي كوان يو" في سنغافورة، أو نيلسون مانديلا في جنوب افريقيا، أو غاندي في الهندي وغيرهم، بغض النظر على مدى ثراء أو فقر البلدان التي وجد فيها هؤلاء القادة.
على النقيض من ذلك، نجد أن القيادة العربية اليوم ترفد العالم بنمط جديد من القيادة؛ حتما سيكون محل دراسة وفحص وتندر لدى مدارس ونظريات العلوم السياسية والاجتماعية! لا سيما قدرة "النموذج" على لفت الأنظار، من خلال الممارسات والسياسات الطائشة والتي لا ترقى إلى نمط القيادة الراشدة التي يعرفها العالم اليوم، على الرغم من وجود هذه القيادة في منطقة وبلدان اتسمت بالثراء الفاحش، والذي كان يمكن أن يكون سببا في إكسابها احترام العالم وشعوبه، وكذلك مساعدتها على تحقيق النفوذ والتاثير الحقيقيين.
في هذا الصدد، أثارت إعادة وزير خارجية
الإمارات العربية المتحدة
عبد الله بن زايد، عن القائد العثماني فخر الدين باشا، خلال عمله قائدا لحامية المدينة المنورة إبان حكم الدولة العثمانية، موجة من السخط في أوساط مختلفة. وجاء رد المسؤولين الأتراك - كما هو متوقع - سريعا وحادا، حيث سارع الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين للرد على إعادة التغريدة بقوله: "من العار أن يقوم عبد الله
بن زايد بإعادة نشر مثل هذه الدعاية الكاذبة التي تهدف لتأليب العرب والأتراك على بعضهم البعض مرة أخرى. لقد كان فخر الدين باشا من دافع بشجاعة عن المدينة المنورة في وجه الطائرات البريطانية"، بينما جاء الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان قاسيا وشديد اللهجة، حيث قال: "حين كان جدنا فخر الدين باشا يدافع عن المدينة المنورة، أين كان جدك أنت أيها البائس؟".
وما كان لهذه التغريدة أن تثير كل هذه الجدل وموجات الغضب والسخرية؛ لو أنها جاءت من مراهق عابث أو ناشط عادي، أو حتى سياسي حاكم أو معارض في بلد ما في النهاية لا يمثلون إلا أنفسهم، ولكنها من جاءت من رجل دولة، لا بل وزير خارجية دولة يعرف عنها اليوم توجه سياسي يمثل انقلابا جذريا على مستوى نمط القيادة داخلها، وعلى مستوى منطقة الخليج العربى، وربما في العالم!
ورغم الطبيعة الاستبدادية لكافة النظم العربية منذ بروز الدولة القطرية، إلا أن مواقف القادة السابقين لم تعرف نزقا وطيشا بهذا القدر، كالذي يجري في مشيخات الخليج العربي اليوم.
كما أن حادثة إعادة تغريدة المسؤول الإماراتي ما هي إلا جزء صغير من سلسلة من السياسات والسلوكيات الخارجة عن مألوف الديبلوماسية، والممارسة السياسية الرشدة لدى هؤلاء القادة الجدد في الخليج العربي.
لذلك، بدا جليا أنه نمط جديد من القيادة يتشكل اليوم في ظل نظم أكثر من النظم الريعية في العالم. فالريْع المتأتي من النفط والغاز وفر لهذه القيادة اليوم الانخراط في سلوكيات سياسية ريعية لم تعد تقتصر على هذه داخل الدول، كما في النمط الريْعي التقليدي، حيث تصادر الحريات والحقوق والتنمية أو تقايضها بإغداق "المكرمات" على شعوبها، وتفرض عليها كافة أشكال الخنوع. بل اليوم النمط الجديد من القيادة يجمع بين العقلية الريعية التقليدية والبداوة السياسية، ليسفر عن طيف من السياسات والممارسات الطائشة في الداخل والخارج.
فالنظم الريعية التقلدية تستخدم الريع في سلوك تبذيري يقوم على نمط الزبائينية، للتحكم في الدولة والمجتمع، ومنع تشكل أي قوة منافسة من خارج الأسرة والزُمر الحاكمة، ولكن اليوم أخذت تصدر السياسات الريعية إلى الخارج، ولتنتقل بالنمط الريعي من وراء حدودها إلى الديمقراطيات المستقرة، بشراء الذمم والمواقف السياسية، خارج مألوف عملية بناء اللوبيات، كما عرفت هناك.
فما كشفته تسريبات العتيبة، سفير الإمارات لدى واشنطن، من إغداق الأموال بسخاء على مراكز الأبحاث وتجنيد العاملين في وسائل الإعلام والباحثين ومخططي السياسات، يكشف مدى خطورة هذه السياسات الريعية للقادة الجدد في الخليج. ذلك أن مراكز الأبحاث هناك تعتبر الرواق الخلفي للسلطة والنفوذ، وتؤثر تأثيرا كبيرا على عمليات صناعة القرار. وإذا ما انتهت تسريبات العتيبة إلى مسار قضائى ما في المستقبل، سوف تتكشف حجم الجوانب غير المرئية للنزعة الريعية الجديدة لقادة الخليج في الديمقراطيات الغربية.
ولم تكن حادثة إعادة تغريد وزير الخارجية الإمارات هي الأولى، فهناك فرض الحصار على قطر، والتورط في حرب مفتوحة في اليمن نجمت عنها معاناة رهيبة، وواقعة إلقاء السلطات الصومالية القبض على سياسى بارز تحدثت المعلومات عن كونه مدعوما من أبو ظبى، إلى جانب محاولة زعرعة الأوضاع في لبنان بزعم محاولة النفوذ الإيراني، لولا تدخل فرنسا بإجبار رئيس الوزراء هناك سعد الحريرى على إعلان استقالته من منصبه.. إلخ. وهي سلوكيات تؤدي إلى زعزعة استقرار الدول والمجتمعات، وتجد الرفض من الحلفاء قبل الخصوم، فضلا عن كونها مخالفة للأعراف الديبلوماسية والسياسية اليوم.
فإعادة نشر هذه التغريدة من قبل وزير خارجية الإمارات؛ تعكس رؤية بلاده وسياساتها تجاه
تركيا، كما تعكس أيضا ترتيب تركيا في أولويات وأجندة أبو ظبي، بعيدة المدى وفي المرحلة المقبلة، بالإشارة إلى نمط التوجه الإقليمي للقيادة الجديدة في أبو ظبي والرياض، والتي تقوم على محاربة ما تسميه بالإسلام السياسي - المعتدل والمتطرف على حد سواء - وإعادة هندسة الإسلام ليخدم توجهات سياسية معينة، والتدين بشكل عام، على أساس جديد، من خلال ما باتت تعرف اليوم بـ"شبكات التصوف السياسي" التي تعتبر إحدى أهم أذرع السياسة الخارجية لحُكّام الإمارات العربية اليوم.
في هذ السياق، لا ننسى التقارير الإعلامية التي كانت قد أشارت إلى دور أبو ظبي في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادتها جماعة غولن في 15 تموز/ يوليو من العام 2016، كما تجب الإشارة إلى احتفاء وسائل الإعلام المحسوبة على أبو ظبي بدعم هذه المحاولة الانقلابية، فضلا عن استمرار نفس هذه الوسائل في الهجوم على القيادة التركية وبشكل ممنهج.