هناك إجماع بين المراقبين على أن منطقة الشرق الأوسط، خاصة الوطن العربي قلب هذه المنطقة، تموج بتغييرات واضطرابات أدت إلى إحداث فراغ كبير تتصارع الآن قوى مختلفة لملء هذه الفراغ، فحتى الدول - كالولايات المتحدة الأمريكية - التي يرى بعض مخططيها ضرورة انسحابها، ولو جزئيا، من هذه المنطقة، والتركيز على مناطق أكثر أهمية لمصالحها الجيواستراتيجية، تظل منشغلة بحالة الفراغ هذه وبأشكال مختلفة. وفى أحيان كثيرة تحاول عرقلة الأدوار الطبيعية لدول المنطقة، كما يحدث مع تركيا.
تتأتى أهمية الدور التركي لكونه سيكون معادلا موضوعيا للأدوار الأخرى في المنطقة، لا سيما في ظل تورط أطراف إقليمية في زعزعة الاستقرار الإقليمي، وكذلك تراجع القوى العربية التي يقال عنها حامية للسُنة
وتتأتى أهمية الدور التركي لكونه سيكون معادلا موضوعيا للأدوار الأخرى في المنطقة، لا سيما في ظل تورط أطراف إقليمية في زعزعة الاستقرار الإقليمي، وكذلك تراجع القوى العربية - التي يقال عنها حامية للسُنة - وهو ما ترك فراغا لو تُرك للقوى الأخرى فسيتفاقم.
علاوة على ذلك، تتحمل تركيا اليوم أعباء انهيار وتراجع البلدان العربية، لا سيما بلدان الربيع العربي، مع تزايد هجرة النخب والكفاءات العربية إليها، والمضطهدين والفارين من حجيم الاستبداد والقمع.
غدت التحركات التركية تثير جدلا متزايدا، ليس من قبل القوى الإقليمية التي في منافسة مع تركيا فحسب، وإنما كذلك لدى الدول الكبرى، رغم
وعلى هذا النحو، غدت التحركات التركية تثير جدلا متزايدا، ليس من قبل القوى الإقليمية التي في منافسة مع
تركيا فحسب، وإنما كذلك لدى الدول الكبرى، رغم أن هذه القوى وغيرها تتحرك في المنطقة، ووفق سياسات خطيرة مقارنة بالسياسات التركية!
وكانت
الزيارة التي قام بها مؤخرا الرئيس التركي طيب رجب
أردوغان إلى كل من السودان وتشاد وتونس، وما ترتب على تلك الجولة من جدل، من آخر تجليات هذا التنافس بين القوى الإقليمية والدولية ووكلائها من جهة، وتركيا من جهة أخرى، من أجل فرض الهيمنة على هذه المنطقة التي تمر بتحولات جذرية في الوقت الراهن.
خلال العقدين الأخيرين، لا سيما في ظل حكم حزب "العدالة والتنمية"، شهدت تركيا انفتاحا متسارعا تجاه محطيها الإقليمي، وكذلك في إعادة تفعيل لدورها ووزنها الدوليين في إطار نظرية "العمق الاستراتيجي" التي وضع قواعدها رئيس الوزراء السابق، أحمد داوود أوغلو، في كتابه الذي الّفه وحمل نفس العنوان، حيث تبوأت العلاقات مع الوطن العربي مكانة مهمة في تلك الرؤية.
الزيارة التي قام بها مؤخرا الرئيس التركي طيب رجب أردوغان إلى كل من السودان وتشاد وتونس، وما ترتب على تلك الجولة من جدل، من آخر تجليات هذا التنافس
وقد قدمت نظرية "العمق الاستراتيجي" إطارا عاما لبناء نظام إقليمي تعاوني وعادل، يحقق مصالح الجميع، بيد أن هذه
السياسة المثالية التركية سرعان ما ووجهت بالتداعيات والتبعات السالبة لسياسات بعض القوى الكبرى، كسياسات الولايات المتحدة بعد غزوها العراق في آذار/ مارس2003، وما ترتب على ذلك الغزو من إشعال الطائفية السياسية في ما وراء العراق، والتي لم تزل تلقي بظلالها السالبة على المنطقة برمتها، وأخلّت بالتوازن الاستراتيجي والسياسي، وأضفت عليه صبغة طائفية وجدت بذورها في خطاب مهندسى خطط الاحتلال خلال مرحلة ما قبل الغزو وبعده، فضلا سياسات واشنطن تجاه الأزمة السورية، ولاحقا توظيفها لملف
المسلحين الأكراد في شمال سوريا.
كما واجهت سياسات الانفتاح التركي كذلك تحدي السياسات الإيرانية ذات النزعة الطائفية، وخطورة تلك السياسة في العراق وسوريا واليمن، وكذلك في الخليج العربي، وذلك لخطورة مثل هذه السياسات على استقرار المنطقة ومصالح شعوبها على المدى البعيد، عندما تحمل أجندة إقليمية رسمية تغذّى طموحات دولة توسعية كإيران.
وكان لكل هذه التداعيات لسياسات القوى الكبرى والإقليمية انعكاسات على تركيا، فضلًا عن ذلك فهي قد حرفت عمليا نظرية "العمق الاستراتيجي" عن جوهرها الصحيح، دافعة تركيا لتبنى سياسات أكثر واقعية في التعاطي مع هذه المتغيرات، لا سيما بعد اندلاع الثورة السورية، وإن ظلت ثوابت هذه النظرية موجودة في السياسة الخارجية التركية.
ويمكن الزعم هنا، أنه، وفي ذلك التوقيت المبكر، لم يواجه مشروع "العمق الاستراتيجي" تحديات أو اعتراضات بحجم الرفض الذي قوبل به لاحقا، حيث كانت بعض القوى الكبرى، خاصة واشنطن وحليفاتها من دول "الاعتدال العربي"، تنظُر إلى "النموذج التركي"، خاصة تجربة حزب العدالة والتنمية، كنموذج "ذاتي" مُلهِم للمزاوجة بين الإسلام والديمقراطية في إطار مشروع واشنطن في تلك الفترة، والذي كان يسعى لتحقيق عدة أهداف في آن واحد:
- شرعنة احتلال العراق وتزيين هذه الغزو بأنه يأتي في إطار مشروع للديمقراطية، بحيث يكون العراق نموذجا آخر لإصلاح النظم العربية القائمة، دون الإقرار طبعا بدور هذه النظم في تغذية الإرهاب.
- شيطنة الإسلام الجهادي كمصدر للتطرف الإرهاب والأصولية العنيفة، وذلك في إطار الحرب على ما يسمى بـ"الإرهاب".
- مد جسور التواصل تكتيكيا مع تيارات وحركات الإسلام السياسي المعتدلة، لمواجهة خطر "الإرهاب"، ولكن في إطار مشروع لإيجاد "إسلام مدني ديمقراطي" يكون ترياقا مضادا للإرهاب.
في ظل تصاعد وتيرة نبرة الانتقادات والتوتر في الغرب ضد تركيا، وضد الرئيس أردوغان بشكل خاص في وسائل الإعلام الرئيسية، ربما ينتقل ميدان المواجهة مع تركيا إلى جوارها الإقليمي
وفي خضم التحولات العاصفة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الربيع العربي، تجد تركيا اليوم نفسها في مواجهة تحديات مهولة. وفي ظل تصاعد وتيرة نبرة الانتقادات والتوتر في الغرب ضد تركيا، وضد الرئيس أردوغان بشكل خاص في وسائل الإعلام الرئيسية، ربما ينتقل ميدان المواجهة مع تركيا إلى جوارها الإقليمي.
كذلك، وفي ظل فراغ القوة في الشرق الأوسط والمشاريع الجارية حاليا لملء هذا "الفراغ"، فضلا عن الصراع حول الهيمنة وإعادة السيطرة على هذه المنطقة، تبدو كل الخيارات أمام تركيا تشير إلى ضرورة العمل على ملء هذه الفراغ، سواء عبر تحركات أحادية أو في إطار إقليمي أو حتى دولي، وإلا سوف تدفع باهظا ثمن المشاريع الأخرى التي ساعدت في إحداث هذا الفراغ، مع تزايد فداحة وخطورة هذا الفراغ بمرور الزمن.
ومن أهم التحديات التي تواجه تركيا في الوقت الراهن يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا، السياسات "التدخلية" لبعض القوى الكبرى (روسيا الصين وأمريكا)، واتباع واشنطن سياسات دعم الأقليات وعسكرتها من خلال دعم المليشيات ذات الطابع الأقلوي. وهناك صراع إلى جانب تحدي الإرهاب الذي تواجه تركيا اليوم أشكالا متعددة منه، كإرهاب جماعة فتح الله غولن، وعناصر حزب العمال الكردستاني، بجانب تنظيم الدولة.
ثانيا، محاولات إسرائيل ملء الفراغ والسيطرة المطلة على المنطقة، وتصفية القضية الفلسطينية وقوى المقاومة، ومن ثم رسم واقع إقليمي جديد تكون دولة الكيان الصهيوني اللاعب الرئيس والمهيمن فيه، وربما يأتي الدور على تركيا لاحقا.
ثالثا، تآكل الدور الإقليمي العربي بشكل كبير، وتحلُّل الدول الفاعلة في هذا النظام تقليديا، فضلا عن تراجع دور "جامعة الدول العربية"، وكذلك "مجلس التعاون الخليجي"، بعد أزمة قطر وفرض الحصار عليها من قبل الرياض وأبو ظبى، حيث كانت هذه الأزمة بمثابة ضربة قاصمة لآخر التكتلات الفرعية المهترئة أصلا؛ للنظام الرسمي العربي.
رابعا، التوجه الإقليمي الجديد الناشئ، والذي قوامه ما تعرف بدول الاعتدال العربي لمواجهة تيارات الإسلام السياسى، حيث ترى هذه الأطراف، ومعها واشنطن و"إسرائيل"، أن تركيا تعتبر داعما لهذه القوى، ومأوى لأنشطته ورموزه.
خامسا، الموازنة بين تحديات الداخل كمواجهة وتصفية عناصر غولن بعد محاولة الانقلاب الفاشلة مؤخرا، واستدامة النمو والنجاح الاقتصادي فى البلاد، وتجديز الإصلاحات والمكاسب الديمقراطية، وإدارة ملف مع اللاجئين والمهاجرين وكيفية استيعاب موجات الوافدين بحثا عن الأمان والحرية، مع تزايد وتيرة التوتر في دول الجوار.
يلاحظ أن هناك تحولا داخليا كبيرا داعما لسياسات الحكومة التركية بشكل كبير
كما يلاحظ أن هناك تحولا داخليا كبيرا داعما لسياسات الحكومة التركية بشكل كبير، فالشارع التركي - وخلافا لما كان يحدث في العقود السابقة - بات اليوم منخرطا في دعم وتأييد القضايا العربية العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، كما تراجعت إلى حد كبير الأصوات القومية والشوفينية المعادية.
ولكن مع ذلك، وفي ظل التحديات الإقليمية القائمة وتداعياتها، من المحتمل أن تكون بعض هذه التداعيات السالبة مادة لتعبئة داخلية مضادة لهذا التوجه التركي الحالي، إذا توفرت عوامل محلية معينة، وبذا، سيقع على تركيا بأدوار شاقة، وكذلك تحمل جل التبعات التدخلات الخارجية السالبة في المنطقة.
لن تتخلى تركيا عن سياساتها القومية أو دورها الإقليمي، كما لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يجرى في محطيها الإقليمي، لكنها سوف تعاني كثيرا من التبعات والصعوبات في ظل التحديات
صحيح أن تركيا قوة إقليمية، ولكنها في الوقت عينه تعتبر دولة قومية ذات سيادة تنطلق من مصالحها القومية وتوازنهاتها الداخلية بالدرجة الأولى، لا سيما التجربة الديمقراطية الصاعدة، والتي يعاد تجذيرها جنبا إلى جنب مع سياسات الانفتاح الخارجي. ولكن لا يمكن بناء نظام إقليمي فعّال يحقق مصالح الجميع؛ دون وجود إرادة قوية ومستقلة لدى دول المنطقة.
بلا شك، لن تتخلى تركيا عن سياساتها القومية أو دورها الإقليمي، كما لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يجرى في محطيها الإقليمي، لكنها سوف تعاني كثيرا من التبعات والصعوبات في ظل التحديات التي أتينا على ذكرها أعلاه.