هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
هل بكى فقراء "السرتون" لموت آمادو؟
هل شيعه بزهور القرنفل؛ جياع "باهيا" ومناطق الجفاف في الشمال البرازيلي؟
(2)
لعله ينام الآن مستريحا تحت شجرة المانجو العتيقة في حديقة منزله، بعد أن أطلق آخر نكاته التهكمية، وأودع أحلامه قلب الأمازون، وأوصى بإحراق جسده ليظل كما قيل عنه دائما الروح البرازيلية الخالصة، وألقى بنظرته الأخيرة على رحلته الطويلة في حياة أراد أن يغيرها فغيرته!
(3)
خورخي آمادو ليس مجرد أيقونة للعرض في فاترينات الأسماء الأجنبية لاستثارة هواة التغريب والتفرد، وليس مجرد جوهرة متميزة في عقد الإبداع الروائي في أمريكا اللاتينية والعالم، وليس مجرد نصير للفقراء ومناضل اشتراكي أنفق سنوات من عمره في المنافي والسجون، دفاعا عن أحلامه وتوجهاته السياسية والإنسانية. كما أنه ليس الوحيد الذي حمل "البطيختين" في حياة واحدة.. بطيخة الأدب وبطيخة السياسة حسب تعبير إميل حبيبي. ولم يكن آمادو الذي كتب روايته الأولى "أرض الكرنفال" قبل أن يبلغ العشرين؛ نموذجا للرجل "الكرنفال"، رغم التنوع والثراء المذهل الذي لون سنواته التسعين. فقد كان كاتبا وإنسانا ذا قوام وسياق، رغم التغيرات والعثرات التي صاحبت ارتقاءه من خندق الأيديولوجيا المحكم إلى الفضاء الإنساني المفتوح. لذلك لم يخجل من الاعتراف في أخريات حياته بأنه يكرر نفسه.. "أستطيع القول مع "إيتالو كالفينو" إنني كتبت رواية واحدة، وأعتقد أنني أكرر نفسي متعمداً، وأعتبر ذلك أسلوبا".
(4)
قبل 60 عاما، كان آمادو يواجه ديكتاتورية "جوتوليو فارجاس"؛ الذي أمر بإحراق رواياته الست الأولى في ميدان عام، كانت الشيوعية زاده ومراده.. كانت أمله في إصلاح حياة فقراء "باهيا" و"بارا"، وسائر ولايات بلاده.. لم تكن الأحلام شحيحة، ولم يكن تحقيقها صعبا في خيال مناضلي اليسار آنذاك.. يكفي أن تكمش يدك وتواجه العالم بقبضة كانت شعارا مشتركا في ملصقات الثوار في كافة أنحاء العالم، كما كانت شهوة التغيير هي الغريزة الأساسية والحلم هو المنطق الوحيد والممكن الوحيد.
لكن السنوات مضت، ودخلت الأحلام حظائر الأوهام.. يهوذا باع جيفارا بدولارين وصورة ملونة لحسناء هوليودية، وخفتت أضواء لومومبا ونكروما وناصر ونهرو وماو وكاسترو (الذي مات أيضا، وإن ظل في الصورة يمشي ويلقي التصريحات ويدخن السيجار).
(5)
الزمن غادر الزمن.. قفزت اللحظة من شرفة المستقبل إلى خزانة الماضي.. تساقطت الشعارات في خريف الاشتراكية الذي بدأ مع موسم عرض جرائم ستالين عقب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي حتى قطع جورباتشوف الشجرة كلها بفأس البريسترويكا، فأوقع أنصار اليسار في مأزق كبير.. اختلف تأثيره بين الجالسين فوق الشجرة والعاملين تحتها، ورأينا بأعيننا ماذا فعل المأزق. في مصر مثلا، حتى قبل سنوات طويلة من ظهور جورباتشوف، رأينا ماحدث ليوسف إدريس وصلاح عبد الصبور وحجازي ولطفي الخولي والعالم وعادل حسين والأبنودي ونجيب سرور ومحمود دياب، وغيرهم من أحياء لا أحب أن أذكر أسماءهم صراحة لأسباب ليس وقتها الآن.. المهم أنه ما بين الجمود والتحول، والاعتكاف والتجول، والجنون والتسول، تبدلت المصائر، وزاغت البصائر، وساد الحديث عن الهزائم والخسائر، وانهارت المشاريع والضمائر. وفي تلك الفترة، هجر آمادو الحزب الشيوعي والعمل السياسي المباشر، مؤكدا أنه سيخوض معاركه السياسية من خلال الكتابة التي وصفها آنذاك بأنها أهم ما في الحياة، مشيرا إلى التزامه كفلاح بالاشتراكية الديموقراطية.
(6)
رداً على تحصن آمادو بالكتابة متخليا عن "الحزبية"، أطلق النقاد والمترجمون اتهامات الهزيمة والإحباط على صاحب "صرخة الماء". في ذلك الوقت، كنت أكرر فشلي في محاولات التماهي مع بطل آمادو الجريء الذي مات مرتين في "كانكان العوام"، لذلك تأخرت في الخروج من "حياتي التي وجدتها" إلى "حياتي التي أصنعها بنفسي".
(7)
قيل أن آمادو خرج بخفي حنين من قصته المزدوجة مع السياسة والأدب، بل إنه لم يتحصل على الخفين بالمرة - إذ لا يوجد "حنين" في تراث البرازيل - فلا نجح المناضل في القضاء على الجوع وتقديم البديل الشهي عن وجبة "الفاصوليا السوداء" التي فعلت بالبرازيليين ما فعله "الفول" بنا نحن المصريين، ولا نجح الأديب في الحصول على جائزة نوبل التي نالها بلدياته كويلهو (كوييو كما ينطقونها)، وكذلك البرتغالي الأقل موهبة وإنتاجا منه، "ساراماجو"، لينضم إلى قائمة نادي المبدعين المنبوذين من "فردوس نوبل"، أمثال تولستوي، جرهام جرين، ريلكه، بروست، كافكا، بورخيس، بار جن، ابسن، كازانتزاكيس.. وغيرهم.
(8)
لكن هل كان آمادو يشعر - حقا - بالهزيمة، وهو ابن الشعب الساخر المحب للحياة الذي يؤكد في أساطيره أن الله برازيلي، وأن العالم خلق من ضحكة؟
(9)
لا يكفي أن تكون برازيليا لكي تدرك الإجابة على هذا السؤال.. يجب أن ترفع المرآة أمام قلبك وتنظر، فإن رأيت روحك فأنت فوق الهزيمة، وإن رأيت مسخا يشبه القناع الذي ترتديه، فأنت جثة مهزومة لا تستطيع أن تفك شفرات آمادو الذي تماهى في شبابه مع محرر العبيد في بلاده، الشاعر الخلاسي كاسترو ألفيس، و"فارس الأمل" الثائر لويس برستس، وظل حتى اللحظة الأخيرة رافضا الاعتراف بالهزيمة، مؤكدا جدارته في تجسيد "الروح البرازيلية"، ليس عبر تماهيه مع ألفيس وبرستس فقط، بل مع الأرض والشجر، وغنائه لعرق الفلاحين، وأشجار البن والكاكاو، وزهور القرنفل والقرفة، وانحيازه لمانويل وماريا كلارا وجابرييلا وكافة بسطاء الواقع السحري في مسقط رأسه ومنبع أدبه "باهيا".
(صفر)
آمادو لم يكن كاتبا، وفقط لأن ما يمكن أن يقال عن موت الكاتب أنه كان يؤلف كتبا ومات، حسب قول عاشق المسيسيبي (الأديب الأمريكي وليام فوكنر)، الذي كان يردد دوما :"لست كاتباً.. بل أنا فلاح"، لذلك لم يستطع الموت أن يهزمه؛ لأن الموت لا يأكل الأرض ولا يقدر على الفلاحين.. الفلاح لا تقتله إلا الحياة، وهذا ما احترس منه آمادو طيلة الوقت، فعاش الصراع بعيون مفتوحة، مفضلا "موتا أبيض" على "حياة مموهة". وظل حتى النهاية يرفض أبواق الهزيمة التي تحاصره، فهو الذي قال في آخر حوار له في باريس قبل الرحيل: لا أعتبر نفسي مهزوماً، ربما حوربت وسجنت، وهاجمني ورفضني أولئك الذين لا يستطيعون قبول شخص مستقل ومختلف عنهم، لكن هناك دائما من يقدرني في البرازيل وخارجها، ولي مكان على الطاولة حيثما ذهبت. وإن كان ثمة نقد لا يقدر أعمالي، فهذا أمر لايزعجني، وإن كانت ثمة "انتلجنسيا" تلعن أدبي، فهذا دليل على أنني أصبت "قلب الشعب"، فأنا كاتب محارب ومختلف عليه، وهذا أفضل؛ لأن الإجماع أمر سلبي وخطير.
(من واحد إلى ما لانهاية)
هكذا عاش ومات خورخي آمادو مثل الفلاح الحقيقي في بلدي.. يؤمن بالأرض وبأننا منها كنا، وبها نكون، وإليها نصير.