(1)
لا يهم إن كان الملك ضَجِراً أم مُزوراً، المهم أنه بدأ "اللعبة"، والأهم أن لديه القدرة على الاستمرار فيها، ربما لأنها تُمتعه، وربما لأنها تحميه من قشعريرة الخوف الذي يسري في عروقه، وربما لأسباب أخرى نتداولها كثيراً ولا نواجهها إلا قليلاً.
(2)
"اللعبة" هي الكلمة التي يبدأ بها سعد الله ونوس حكاية الملك (ولا عيب إن قرأتِ الميم بالفتحة أو بالضمة)، حيث نرى مجموعة من الشخصيات تتحرك وتتحدث في صخب، ونسمع زعيق عبيد (أحد مديري اللعبة) قائلاً بوضوح: "هي لعبة"، فيردد أبو عزة السكير: "هي لعبة"، ويؤكد المَلك: "نحن نلعب"، فتردد كل الشخصيات كلمة "اللعبة" بفوضوية وطبقات صوتية متنوعة. ولما يضرب عبيد الأرض بعصاته طالبا الصمت والاستعداد لبدء اللعبة، يصمت الجميع إلا السياف الذي يسأل: قبل أن نبدأ.. أريد أن أعرف هل أنا سياف أم جلاد؟
يرد عليه زاهد (المدير الثاني للعبة): وما الفرق؟
يجيب السياف: لأني أحمل بلطة لا سيفاً.
يقول عبيد بطريقة "الموضوع خلص خلاص وما تتكلموش فيه تاني": مش مهم.. ستكون سيافاً يحمل بلطة.. ياللا نبدأ اللعبة، ويمسك بالخيوط المربوطة بالشخصيات ويحركها كالدمى في مسرح للعرائس.
(3)
قصة الحاكم التي يلعب بالبلاد والعباد قديمة، وأشهرها ما جاء في "حكاية النائم واليقظان" ضمن حكايات "ألف ليلة وليلة"، وتحكي عن حاكم يدفعه العبث والهزل إلى تبديل الأقنعة، فبدلاً من أن يتنكر في صورة مواطن للاطلاع على أحوال الناس، يصطاد واحداً من الناس (لا فرق إن كان أبو الحسن الخليع أو سلامة بائع القماش أو موسى مصطفى موسى)، فيضع على وجهه قناع التنكر، ويخدعه في لعبة مؤقتة بتمثيل دور الملك، أو "تقمصه". فعل ذلك هارون الرشيد أثناء جولة تنكرية بصحبة سيافه (مسرور) عندما تعرف على التاجر المفلس "أبي الحسن الخليع"، فأمر بتخديره ونقله إلى قصر الخلافة ليتفرج عليه وعلى الشعب، عندما يتوهم أنه صاحب الحكم والقرار. وبعد أن يتسلى الحاكم وينال غرضه، يتم تخدير المخدوع وإعادته إلى الشارع كما كان أو أسوأ. لكن ماذا لو مات الملك أثناء اللعبة؟.. ماذا لو تحول الهزل إلى جد؟.. ماذا لو اختفى
السيسي لسبب ما، وصار موسى مصطفى موسى مرشحا وحيدا لرئاسة
مصر؟، ثم رئيساً لمصر!!
(4)
الحكايات القديمة كانت تنتهي نهايات سعيدة، سواء في ألف ليلة، أو في الأعمال المأخوذة عنها، مثل مسرحية مارون النقاش في مطلع خمسينيات القرن الماضي، أو فيلم "سلامة في خير" الذي أدى فيه نجيب الريحاني دور "القناع الطيب"، والنسخة التي قام ببطولتها فريد شوقي بعد ذلك بعنوان "صاحب الجلالة"، وأعمال فنية كثيرة أخرى استلهمت تيمة انقلاب الهزل في الحكم إلى واقع مؤقت.. لكن المسرحي السوري المبدع سعد الله ونوس سأل السؤال الذي يردده الآن ملايين المصريين والعرب: ماذا لو استمرت اللعبة وتحولت التمثيلية إلى واقع؟
(5)
الإجابة الصادمة لمن يستبعد هذا الاحتمال أو يقلل منه، أن وصول موسى مصطفى موسى إلى الحكم لن يكون السابقة الأولى لانقلاب اللعبة إلى واقع، فمعظم حكامنا تولوا مناصبهم بلعبة، حيث كان دائماً هناك من يحرك الخيوط، وهناك من يمثل، فإذا بالممثل يمسك بالخيوط ويحرك الجميع على خشبة المسرح، وفي قاعة المتفرجين أيضاً. قيل ذلك عن قنصوه الغوري الذي أجلسه الأمراء الأقوياء على كرسي السلطنة عنوة وهو يبكي رافضا، فإذا به يطيح بالجميع و"يتدكتر" (من الديكتاتورية)، وقيل ذلك عن "ملاعبة" عبد الناصر للسوفييت بتعيين السادات نائباً له، فإذا برجل أمريكا المعلن يحكم ويرتد على عبد الناصر وانحيازاته، وقيل ذلك عن اختيار السادات لمبارك، فإذا بالسادات يذهب ومبارك يدوم حتى تخلعه الأقنعة التي ابتلعت الواقع تماما، فلم يبق إلا التمثيل الهزلي.. في البيت، في المكتب، في السيارة، وفي قصور الحكم، وعلى شاشات الدنيا.
(6)
اللعبة كما رواها سعد الله ونوس، ويؤكدها جلوس السيسي على عرش مصر، أن الملوك بلا سحنة.. إنهم مجرد رداء فخم على جسدٍ بليد، وتاج ثمين على رأس فارغ إلا من الطمع والخسة، لذلك لا ينتبه الناس إلى الصفات الإنسانية للحاكم؛ لأنهم لا يرون إلا هيلمان السلطة. ومن هنا قال الراوي ساخراً ومتفلسفاً: "أعطني تاجاً.. أعطك ملكاً"، بينما قال الشهبندر للشيخ الإمام: "ألا تلاحظ أن سحنة الملك تغيرت؟ فقال "وزير الأوقاف": نعم.. لقد أصبح ملكاً أكثر". سحنة الحاكم إذن لا تهم، فلن يكون هناك أي فرق يذكر بين موسى وعبد الفتاح؛ لأن مؤسسة
الرئاسة تمنح التاج لمن يعبر الباب، وتعرف من أين تشتري البدلات الأعلى سعراً من مرتديها، والأحذية التي تستحق المديح أكثر من لابسيها. ولو كان "السيد" ترامب أميناً لقال للعالم رأيه في الحذاء الذي يملأ رأس "عبده"؛ لأنه "حذاء الرأس" هو الذي يعنيه في تمرير "صفقة القرن"، وليس حذاء القدم.
(7)
يبدأ الهزل عادة، عندما لا يتسع الواقع للعقل وللمنطق، وعندما ينتفخ الحكام بأورام الغرور الكاذب والعظمة المتوهمة، فيصبح الفراغ وطناً، والجهل حكمة، والتسلط سمة، وتتصاعد مشاعر الضيق بالناس، لهذا يقول الملك العابث في مسرحية ونوس: يزداد ضيقي كلما فكرت أن هذه البلاد لا تستحقني، لذلك أريد أن ألهو، أن ألعب لعبة شرسة.. أريد أن أعابث البلاد والناس، ويقول الملك خارج مسرحية ونوس إنه يحكم شعباً أكل الجوع وشرب العطش إذا تحرك أضاع السلطنة وإذا سكن أضاعها أيضاً، هكذا تتسع دوائر الهزل؛ لأن السلطة وصلت إلى المغفلين من نوعية أبو الحسن الخليع وأبو عزة المفلس، لكن شيئا ما يبقى في مساحة الأمل، لكي يتقبل الناس استمرار الحياة، ويحلمون بانكماش الهزل داخل حدوده المسموحة في قاعات اللهو وليس في فضاء الحياة، وربما لهذا يختتم ونوس مسرحيته بحكاية خيالية تماماً، بعيداً عن لعبة "النائم واليقظان"، وبالرغم من بُعدها وخياليتها إلا أنني أحبها وأصدقها.
تعالوا نقرؤها معاً:
(6)
تروي كتب التاريخ، عن جماعة ضاق سوادها بالظلم والجور والشقاء، فاشتعل غضبها، وذبحت ملكها، ثم أكلته.. في البداية شعروا بالمغص، وبعضهم تقيأ، لكن بعض فترة صَحَّت جسومهم، فقد تساوى الناس، وراقت الحياة، ثم لم يبق تنكرٌ ولا متنكرون.
[email protected]