بداية يجب التأكيد على أن ما شهدناه في العاشر من شباط/ فبراير الجاري كان تصعيدا أو اشتباكا إيرانيا – إسرائيليا بامتياز في سوريا، لا دور أساسيا أو مركزيا فيه للنظام الضعيف والأداة، كما لا مكان لفلسطين أو القضية الفلسطينية فيه.
سعت طهران عبر هذا الاشتباك الذي بادرت إليه عن سبق إصرار وتصميم؛ إلى إرسال رسائل متعددة للداخل والخارج على حد سواء. أما تجيير الحدث للنظام، فلم يكن سوى عمل دعائي أو جوبلزي بحت، واحتفاء الحشد الشعبي الإعلامي بما أسموه الانتصار، رغم الخسائر الكبيرة، كان ديموغوجياً مجافياً لجوهر أو حقيقة ما حدث. الذي يمكن التأكيد عليه بشكل عام؛ أن كل شيء كان مخططا وبعيداً عن النظام، اللهم إلا سقوط الطائرة الإسرائيلية، والذي جاء بمحض الصدفة فقط، ونتيجة شظايا عشوائية لصاروخ مضاد للطائرات مماثلة تماماً لتلك التي سقطت في مدينة الرمثا داخل الأراضي الأردنية.
سعت طهران عبر هذا الاشتباك الذي بادرت إليه عن سبق إصرار وتصميم؛ إلى إرسال رسائل متعددة للداخل والخارج على حد سواء. أما تجيير الحدث للنظام، فلم يكن سوى عمل دعائي
أرسلت
إيران طائرة الاستطلاع إلى داخل فلسطين المحتلة عن عمد، وهي أرادت تحقيق سبق أو انتصار معنوي، وتوقعت بالتأكيد إسقاطها، ولكن كانت تريد الاحتفاء بمجرد دخولها أجواء فلسطين المحتلة، حتى لو خسرت الطائرة نفسها. وربما تكون فوجئت أيضاً بالردّ
الإسرائيلي (على طريقة لو كنت أعلم لمسؤول الحشد الشعبي الإيراني بالمنطقة) المتمثل بقصف القاعدة التي انطلقت منها في مطار "T4" بحمص مع تصدّي المضادات الأرضية المعتاد والروتيني للطائرات الإسرائيلية، كما هو الحال في السنوات القليلة الماضية التي أغارت فيها إسرائيل مئات المرات قاصفة آلاف الأهداف، وتعرضت طائراتها في بعض الأحيان للمضادات الأرضية المتهالكة التابعة للنظام، والتي كانت أقرب إلى الجانب الدعائي، للإشارة إلى عدم السكوت أو الرضى بما تفعله إسرائيل، مع التوقف دائماً عند هذا الحد.
أعتقد أن إيران فوجئت، كما إسرائيل نفسها، بإسقاط الطائرة الإسرائيلية "f16" بسلاح بدائي وقديم، ما أدى إلى رد فعل إسرائيلي عنيف شمل قصف 12 هدفاً للنظام، أو بقايا النظام العصابة. وللمفارقة، فإن نصيب الأسد هنا كان للاحتلال الإيراني، وشملت الأهداف نظم للدفاع الجوي، كما مراكز سيطرة تحكم وتدريب وتخزين ولقواعد عسكرية إيرانية في سوريا.
إيران فوجئت، كما إسرائيل نفسها، بإسقاط الطائرة الإسرائيلية "f16" بسلاح بدائي وقديم، ما أدى إلى رد فعل إسرائيلي عنيف شمل قصف 12 هدفاً للنظام
رغم الردّ الإسرائيلي العنيف، إلاّ أنها (أي إيران) والنظام لم يردا، واكتفيا بالاحتفال بإسقاط الطائرة، رغم الخسائر والتكاليف الباهظة على الصعيدين البشري والمادي أو التقني، ومع تدمير منظومات الدفاع الجوي، ما جعل السماء السورية مكشوفة أمام طائرات الاحتلال الإسرائيلي، كما القضاء على المشاريع أو الخطط الإيرانية لإقامة معسكرات ومراكز عسكرية لها في سوريا.
سعت القيادة الإيرانية المستبدة والمتنفذة عبر الاشتباك (المحدود) مع إسرائيل إلى إرسال رسائل متعددة الاتجاهات؛ أهمها برأيي رسالة للداخل الإيراني بسطوتها أو هيمنتها الإقليمية المزعومة. وهي أرادت كذلك استباق الصفعة الشعبية القادمة وقمع أي تظاهرات أو معارضة لسياساتها الخارجية، والهرب من الفشل الداخلي المركب والعميق باتجاه تحقيق إنجاز ما في الخارج، حتى لو كان دعائيا ومصطنعا ومفبركا.
أردات إيران كذلك التأكيد على حضورها في سوريا المحتلة. وكما قال موقع "عصر إيران" (الأحد 11 شباط/فبراير)، فإن
الرسالة الأهم كانت لروسيا التي حجمت أو تجاهلت الحضور والتأثير الإيراني في السياق السياسي والأمني، كما في مخططات إعادة الإعمار؛ مع تجاوب النظام أو بقايا نظام الأسد مع التوجهات الروسية، وهذا ما وقف خلف هجوم الصحافة الإيرانية القاسي على بشار ووصفه بأحطّ وأقذر الأوصاف.
ثمة رسالة إيرانية للولايات المتحدة مفادها أن مزيد من الضغوط الأمريكية أو مواجتها وعزلها في سوريا؛ ستؤدي مباشرة إلى الاشتباك أو التصعيد مع حليفتها إسرائيل
بدت لافتة كذلك إشارة الموقع الإيراني نفسه إلى عملية غصن الزيتون - عفرين؛ كأحد أسباب التصعيد والاشتباك مع إسرائيل، والإشارة إلى توافق روسي تركي بعيداً عن إيران، التي فقدت تأثيرها وحضورها لصالح الاحتلال الروسي، وهو ما قد يفسر أيضاً حديث أو تبجح أحد قادة الحرس الثوري (وكالة مهر الأحد 11 شباط/ فبراير) عن منع بشار من الاستسلام، ومغادرة القصر، وجلب مليشيات أجنبية للدفاع عنه وحمايته وبقاء نظامه، علماً أن التدخل الاحتلال الروسي ينسف من حيث المبدأ هذا الكلام، وينسب الفضل الأساس في بقاء النظام إلى الروس، كما قال صراحة ذات مرة؛ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
لا شك أن ثمة رسالة إيرانية للولايات المتحدة مفادها أن مزيد من الضغوط الأمريكية أو مواجتها وعزلها في سوريا؛ ستؤدي مباشرة إلى الاشتباك أو التصعيد مع حليفتها إسرائيل. وحسب العقلية الاستبدادية والمنفصلة عن الواقع، قد يكون هذا صحيحاً، إلا أنه يستبطن أيضاً جبنا أو عجزا عن مواجهتها في العراق مثلاً؛ الذي تبجح النظام الإيراني بالسيطرة التامة على القرار فيه، علماً أن تلك السيطرة خضعت دائماً لخطوط أو قواعد لعب مرسومة ومحددة أمريكا.
بدا لافتاً كذلك في الاشتباك الأخير عدم اعتماد إيران على ذراعها الإقليمي المركزي، الحشد الشعبي اللبناني (حزب الله سابقاً). وأعتقد أن الأمر متعلق بالهجمة الأمريكية الشرسة ضده، كما للانتقاد الإيراني الشعبي له، وقبل ذلك وبعده كانت رغبة القيادة الإيرانية في تجيير ما تعتبره انتصار لصالحها مباشرة في الداخل والخارج على حد سواء.
النتائج جاءت تماماً عكس ما أرادته طهران، رغم الصخب الدعائي الجوبلزي على طريقة إعلام أحمد سعيد (الحي في الحشد الشعبي الإعلامى وأدائه) في ستينيات القرن الماضي. والاشتباك كرّس بالتاكيد النفوذ السياسي للروس، مع عدم ممانعة موسكو لما جرى، وانتفاء رغبتها في كسر القواعد المتعلقة بحق إسرائيل في الدفاع عن أمنها ومصالحها كما يحلو لها، بنفس روح التفاهمات الأولى التي تم التوصل اليها عند بداية الاحتلال الروسي لسوريا (أيلول/ سبتمبر 2015)، مع ضمان عدم التشويش أو نقض الواقع الحالي، أو السعي لإسقاط النظام باعتبار بقائه مصلحة عليا لموسكو. ومن هنا، يمكن فهم سكوت أو غض الروس الطرف عن الضربات الإسرائيلية الساحقة، رغم أنها دمرت منظومات الدفاع الجوّي (القديمة والمتهالكة على أي حال)، كما القواعد أو مشاريع القاعدة الإيرانية.
إسرائيلياً؛ وأمام سيل التعليقات والتحليلات، يجب الانتباه إلى ما كتبه الجنرالان السابقان عاموس يدلين، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية السابق (يديعوت أحرونوت السبت 10 شباط/ فبراير)، ويوسى كوبرفيسر، رئيس شعبة الأبحاث السابق في نفس الجهاز (موقع ميدا الأحد 11 شباط/ فبراير). فمع الإشارة إلى خسارة الطائرة وانتقاد استغراق أو ذهاب المحللين بعيداً في التركيز على هذه الجزئية، وهو أمر متوقع دائماً، كما قال يدلين، وحتى مقبولاً قياساً إلى مئات الغارات السابقة، إلاّ أن ثمة إجماعا بين الجنرالين على اعتبار أن ما أنجزته، أو بالأحرى دمرته تل أبيب في هذه الجولة؛ كان كفيلا باندلاع حرب فيما لو فعلته في الأوقات أو الظروف العادية، وفي غياب المغامرة أو اللعبة الإيرانية بإرسال الطائرة إلى أجواء الجولان المحتل.
ما جرى لم يؤسس ابداً لواقع جديد، وإنما كرّس فتح الأجواء السورية أمام طائرات الاحتلال الاسرائيلى وغاراتها
أما حديث الحشد الشعبي الإعلامي، وحتى بعض المحللين، عن تغيير قواعد الاشتباك أو تغيير في قواعد اللعبة، فقد نفاه يدلين وفيسر، مع التأكيد على أنّ ما جرى لم يؤسس ابداً لواقع جديد، وإنما
كرّس فتح الأجواء السورية أمام طائرات الاحتلال الاسرائيلى وغاراتها.
غير أن أكثر ما يثير الأسى الغضب والأسف في ردود الفعل على الاشتباك الاحتلالى الإيرانى الإسرائيلي؛ كان تصرف الفصائل الفلسطينية في غزة وإعلانها الاستنفار، وتأكيدها على أن أي حرب محتملة في الشمال ستنخرط فيها تلك الفصائل. الموقف بدا غبيا في أسوأ الأحوال، وساذجا ومراهقا في أحسنها، كون غزة المدمرة لا تحتمل أي حرب جديدة، ناهيك عن أن الجبهة الشمالية صمتت صمت القبور، بينما كانت غزة تتعرض للتدمير، ليس مرّة ولا مرتين، بل ثلاث مرات في ست سنوات.
في النهاية، وباختصار، سعت إيران أولاً وأخيراً إلى تكريس احتلالها لسوريا، وتأكيد حضورها كقوة بارزة ومقررة في العالم العربي والمنطقة، أو حتى كإمبراطورية فارسية دون قناع أو تمويه؛ كما قال دون تلعثم المسؤول في المجلس الأعلى للثقافة، رحيم بور أزغدي (الثلاثاء 20 شباط/ فبراير)، وكما أقر علانية نائب وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجي (الأحد 25 شباط/ فبراير)، ولكن طبعاً للإعلام الأجنبي وباللغة الإنجليزية، حيث قال إن إيران لا تستهدف إسرائيل في سوريا، وإنما داعش والتكفيريين. وبينما بدا نظام بشار الصغير على حقيقته؛ فاقد الحيلة والتأثير ومفعولا به، تصرفت إسرائيل على طريقتها، أيضاً كقوة احتلال في فلسطين وسوريا، ساعية للدفاع عن مصالحها أو خطوطها الحمر الأمنية المتغطرسة المحمية أو المفهمومة أمريكياً وروسياً.
وبالتأكيد، لا مكان لفلسطين أو القضية الفلسطينية في هذا الاشتباك الاستعماري بامتياز؛ بين قوتين ساهمتا (كل على طريقتها) في تدمير فلسطين سوريا والعالم العربي بشكل عام.