أُثير، وما زال يثار،
جدل واسع في تونس حول قضية المساواة في الإرث وغيرها من التشريعات القانونية التي تتعلق
بالمرأة، منذ أعلن الرئيس الباجي قايد السبسي عن مبادرته بشأن
المساواة وحقوق
المرأة.
ورغم أن هذا الجدل قد خفت بعض الشيء بعد تشكيل لجنة
مختصة في الغرض، وتأجيل عرض نتائجها إلى مرحلة لاحقة، إلا أنه عاد مجددا وبصورة
صاخبة على مشارف الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها بداية شهر أيار/ مايو القادم.
ومن ذلك تنظيم مسيرة وسط العاصمة دعت إليها بعض الجمعيات
النسوية، مطالبة بالمساواة الكاملة في الإرث، وكان من بين شعاراتها "للذكر
مثل حظ الأنثى".
والأرجح أنه كلما اقتربنا من موعد الانتخابات البلدية ازداد منسوب التوتر والجدل حول هذه القضية وغيرها؛ نظرا لوجود جهات كثيرة ما
زالت تراهن على الاستثمار في الصراع الأيديولوجي لاكتساب بعض النقاط الانتخابية،
وإضعاف موقع الخصم بحجة الدفاع عن "
المشروع المجتمعي الحداثي والتقدمي".
لا شك أن المرأة العربية، بما في ذلك
التونسية
التي تقدمت خطوات مهمة على صعيد تثبيت بعض المكتسبات، ما زالت تعاني وجوها متعددة
من التهميش والاضطهاد وهضم الحقوق.
والكثير من هذه المظالم تعود في جوهرها إلى التشبث
بعادات وأعراف ظالمة؛ يتم تغليفها باسم الدين والمقدسات.
فالنظرة الدونية للأنثى، واختزال دورها في البيت وحجبها
عن الحياة العامة وعدم امتلاكها ناصية أمرها في الزواج والعمل؛ من عادات المجتمعات
الذكورية والثقافة الرجولية أكثر مما هي في أصل الدين.
إذ يقوم الإسلام على مبدأ تكريم النفس البشرية والمساواة
الكاملة في المكانة الوجودية والأخلاقية للإنسان، دون تمييز بين الإناث والذكور.
لذلك كثيرا ما يتردد في القرآن نداء "يا أيها
الناس"، وَ"يا أيها المؤمنون"، ولا نجد خطابا حصريا موجها للرجال
أو
النساء، إلا في حالات نادرة ومحدودة.
وعلى هذا الأساس، نحن
لا نرى تناقضا بين الالتزام بالدفاع عن المرأة وحقوقها كاملة غير منقوصة من جهة، واحترام الإسلام وتقدير دوره، في إطار ما أسميته سابقا "النسوية إسلامية".
الإسلام دين تحرري في جوهره، منح المرأة مساحة
واسعة من الحقوق ورفع عنها القيود والأغلال الاجتماعية، وإن كان الكثير مما في
المدونات الفقهية وليد عصره وبيئته، وَذَا منزع رجولي محافظ لا ينسجم مع موقع
المرأة في المجتمع الحديث.
من هنا تتأتى أهمية تجديد الاجتهاد في قضايا المرأة؛ بما
يستجيب لروح العصر والتحولات الناشئة في أوضاع الاجتماع البشري وأصول الإسلام
ومقاصده العليا.
إن الإسلام ليس عائقا أمام التحرر والتنوير واكتساب
المرأة حقوقها ونيل حريتها، كما تزعم المدرسة الاستعمارية وورثتها الجدد؛ الذين
يزدرون الإسلام ويمقتونه في بواطن نفوسهم، جرّاء عقد الاستعلاء والتمركز حول
الذات، أو لنزوع يساري متطرف. ودع عنك خدعة "ديننا الحنيف" التي تدبج
بها خطابات بعض السياسيين لتجنب مصادمة الرأي العام..
نحن مع مبدأ المساواة ورفض كل أشكال التمييز أو الانتقاص
من حقوق المرأة باي مبرر من المبررات، ولكن من الخطأ التاريخي والسياسي بعث رسالة
مفادها أن النضال من اجل تمكين المرأة وتحسين أوضاعها معركة ضد الدين والهوية،
بزعم أن الإسلام يضطهدها ويحط من شأنها ويغمطها حقوقها. والمعادلة بهذا المعنى
حادة قاسية: فإما أن تختار المرأة خط التحرر أو خط الإسلام.
ما يجهله متبنو هذا التوجه، هو أن قراءتهم هذه من شأنها
أن تضعف الحركة النسوية، وتغذي الشكوك ضدها لدى قطاعات واسعة من التونسيين
والتونسيات، منظورا إليها تيارا مناوئا للإسلام وقيم المجتمع التي استقر عليها
لقرون متتالية.
إن المساواة وتوسيع مساحة حقوق المرأة ومكتسباتها، قضية
عادلة ومشروعة ، لكن طريق تحقيقها يمر عبر خوض معركة على جبهتين متكاملتين:
أولا، عبر اجتهاد إسلامي ينزع أي مبرر للتمييز ضد النساء
أو الانتقاص من حقوقهن باسم الدين، ومن خلال مشاركة أهل الاختصاص من النساء أنفسهن
في حركة الاجتهاد وتأويل الإسلام على أساس من الدراية بالدِّين ومتطلبات العصر.
وثانيا، عبر النضال العملي والميداني للارتقاء بأوضاع
المرأة، خصوصا الأقل حظا في التعليم والتنمية، وهي التي تمثل الكتلة الأكبر في
مجتمعاتنا.
كما أن الحركة النسوية الجادة عليها أن تكون واعية
بقضايا الهيمنة والسرديات الاستعمارية المتخفية وراء مقولات تحرير المرأة المسلمة،
مثلما كانت تختفي سابقا وراء شعار الرسالة التمدينية الذي رفعته الجيوش
النابليونية في القرن التاسع عشر. عليها أن تجدّ لوضع قضية المرأة ضمن السياق
العربي، وتتناولها وفق مشكلاته وتعقيداته وأولوياته، أي أن تساهم في صنع سردية
تحررية خاصة بالمرأة العربية.
نحن مع تثبيت حقوق المرأة وتوسيع مكتسباتها إلى أقصى حد
يتيحه الاجتهاد الإسلامي، وهو ذات المنهج الذي استند إليه علماء ومفكرون مستنيرون
نافحوا عن حقوق المرأة المسلمة ورفضوا كل أشكال التكبيل والضيم الذي تلاقيه، منهم
الشيخ محمد عبده وتلميذه قاسم أمين، والطاهر الحداد والفاضل بن عاشور في تونس،
وغيرهم.
وحتى مجلة الأحوال الشخصية التي منعت تعدد الزوجات، وهو
موقف صحيح، وضمنت حقوقا أخرى للمرأة التونسية، قد صاغتها نخبة من علماء الزيتونة
الأجلاّء، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز جعيط رحمه الله، اعمَلوا آلية الاجتهاد
والترجيح بين المذاهب الفقهية الإسلامية المتنوعة.
إن المواريث في الإسلام، كما يقر عدد كبير من العلماء
المستنيرين وأهل الاختصاص، نظام معقد ومضبوط، لا يمكن اختزاله في الآية
"..فللذكر مثل خط الأنثيين..".
والعالم بالتفاصيل والجزئيات يدرك أن المرأة في كثير من
الحالات ترث بمقدار مكافئ للرجل، وقد تزيد عليه، مثلما يمكن أن ترث أقل منه، في
إطار نسيج العلاقات الإسلامية القائمة على الترابط والتضامن الأسري الذي وفّر
للمرأة قدرا كبيرا من الحماية في مواجهة والهزات التي تتعرض لها في حياتها، مثل
الطلاق والترمّل واليتم، وغيرها من الصعوبات.
من حق البعض أن يدافعن عن توجهاتهن الخاصة، بما في ذلك
المناداة بالمساواة الكاملة في الإرث، ولكن ليس من حقهن فرض رؤيتهن على الآخرين
تحت أي ادعاء كان.
من حقهن أن يكون موقفهن من الإسلام سلبيا، لكن محاولة
فرض ذلك على جميع التونسيين والتونسيات غير مقبولة بتاتا.
فإذا كان ما يزيد عن 70 في المئة من التونسيات يرين
الإسلام عادلا إزاء المرأة وقد أعطاها حقوقها، كما أبرزت الكثير من استطلاعات
الرأي، فما الذي يدعو إلى الإصرار على فرض نظرة عدائية للإسلام وموقعه في المجتمع؟
ما الذي يمنع النضال من داخل الإسلام وعلى أرضية
الاجتهاد، بدل افتعال معركة وهمية مع الدين والهوية؟
من الوهم تصور أن قضية المرأة التونسية، أو العربية
عامة، تُختزل في مجرد سن فصل قانوني يمنح المساواة أو التماثل في الإرث بين الذكور
والإناث.
الأهم والأولى من كل ذلك اليوم هي المساواة بين المرأة
والمرأة: بين المدينية المتعلمة التي درست في الغالب في مدارس النخبة وتلقت تعليما
جامعيا متقدما، في تونس أو في الخارج، وتعيش في أحياء العاصمة المرفهة أو بعض مدن
الساحل المحظوظة، وتتمتع بمساحات واسعة من الحريّة الفردية والعامة من جهة، وبين
نظيرتها المسكينة التي ترزح تحت الأمية أو نصف الأمية وتتعايش مع الفقر والبؤس،
تلك التي تكابد الأعمال المضنية في الفلاحة، أو تمضي كامل يومها منكبة على آلة
خياطة في معمل نسيج لقاء ملاليم لا تكاد تسد الرمق، بلا عقود ولا حقوق ولا تغطية
صحية ولا اجتماعية، تحت رحمة مشغلها، عرضة لشتى صنوف الاستغلال البشع.
هل لهؤلاء التونسيات في جندوبة أو القصرين أو سليانة أو
قبلي، أو في أحزمة الفقر والتهميش في العاصمة، في حي التضامن أو الملاسين، نفس
الحقوق والمكتسبات التي تحظى بها نظيراتهن في الأحياء الراقية في المرسى أو سيدي
بوسعيد أو مدن الساحل المرفهة؟
من هنا تبدأ المعركة الحقيقية، معركة المساواة
الاجتماعية والاقتصادية في التعليم والشغل وظروف الحياة الكريمة، بدل التلهّي بشنّ
المعارك على "للذكر مثل حظ الأنثيين".
بل إن آلاف التونسيات في الأرياف ومدن الداخل لا ينلن الحد
الأدنى من حقهن في
الميراث، بزعم أن مشاركة الأنثى حقها في الوراثة مع إخوانها أو
أقاربها الذكور أمر معيب، وأضعاف أضعاف هؤلاء لا يملكن شيئا يرثنه من آباء معدمين
ويهبنه أبناء عاطلين، عدا الدعاء لهم بأن يفرج الله الكرب ويكشف الغمة، في بلد
يعاني من التفاوت الطبقي والجهوي منذ عهود البايات.
وفيما تتبارى نساء الصالونات في مقارعة آيات الميراث،
وتصفية الحساب القديم/ الجديد مع الإسلام، يبقى الفقر والحرمان أكثر ما تورثه جل
النساء في جهاتهن المنسية وأريافهن البائسة، حيث ينعدم حتى الماء الصالح للشرب.
من هنا تأتي أهمية رسم الأولويات في خط النضال من أجل
المساواة وحقوق المرأة. فمعركة المرأة التونسية والعربية ليست مع القرآن ولا مع
الإسلام، بل مع الجهل والفقر والجور.
هذه المعركة ينبغي أن تخاض داخل الجبهة النسوية نفسها،
أي ضد التمييز بين المرأة والمرأة، على أساس الطبقة الاجتماعية والموقع الاقتصادي
والمنحدر الجهوي، فهي المصدر الأعظم للحيف الذي يعانيه القطاع الأوسع من نسوة تونس.
السؤال المحوري إذن هو: كيف نجعل المرأة متساوية مع
المرأة؟
كيف نمنح صوتا وسلطة للمرأة الضعيفة المغيبة في أعماق
المدن والأرياف، يضاهي الصوت والسلطة التي تمتلكها النخبة النسوية ذات الجاه
والحظوة؟ أم أن الأمر حق لها (النخبة) وحكر عليها دون غيرها؟
إن الخطوة الأولى في طريق التحرر النسوي هي التخلص من
السردية المهيمنة المغلفّة بمقولات الكونية والعالمية، وفتح دروب خاصة لنا نحن
النساءَ العربيات لننتزع الحقوق والمكتسبات وفق أجندتنا وأولوياتنا نحن، لا وفق
أجندات وحسابات الآخرين.