كتبتُ تغريدة قصيرة أعجبُ فيها من المجد الذي بلغه
محمد صلاح، فقد
بلغ مجداً لم يبلغه أحد في عصره، فلا نجم نوبل الأدب العربي نجيب محفوظ ألصقتْ صورته على طائرة، ولا أحمد زويل، ولا عادل إمام أيضاً، ولا كعباً بلغوا ولا كلابا.
أما حسن البنا، فقد أمسى عدوّ
مصر الأول، ومطلوب ميتاً للمرة الثانية في مصر والإمارات والسعودية. جاء في تغريدتي القصيرة قولي "المشهود":
محمد صلاح.. الدين الأيوبي.
كأنما قال فيه إبراهيم طوقان:
رابط النفس والنهى/ ثابت القلب والقدم
جاء في الأثر أيضاً، أن روما تُفتح بالتكبير، ويأمل بعضهم أن يفتحها محمد صلاح، بالتكوير والدبل كيك. في مصر يتحدثون عن عسكرة الفن، ونحن نقوم بتكوير الصراع، فنعتزّ به، أيما اعتزاز، علماً أن محمد صلاح يسجل الأهداف لنادٍ بريطاني، وليس لنادٍ عربيّ، أو دولة عربية أو مسلمة. حالنا حال القرعاء التي تتباهى بشعر أختها. وهو يعامل في مصر كأمير سعودي، ومصدر للرز، فهو يكنى بأبي مكة، وتنوشه الرماح بين الحين والآخر كأنه خلية إخوانية نائمة، فهو يصلي ويقرأ القرآن وهذه علامات إخوانية، وقد اتُهم مسيحيون ويهود ومجوس بأنهم إخوان!
محمد صلاح رمزٌ مقبول لدى أرباب وآلهة العالم الجديد، وإن كان متديناً تقياً، حصيفاً، فمصحفه لله، أما
كرة القدم فهي للجميع.
ومع وسطيته، واعتداله، وصمته الحكيم، وعفافه، لم ينج من إعلام عواصم الانقلاب، التي عابت عليه سجوده ووصفته بالشعبوي، بل إن
شيخاً سلفيا اسمه هشام البيلي، وصف سجود صلاح بعد إحرازه الأهداف بأنه أمر غير شرعي، وشيخ آخر كاد أن يكفره، بقوله: إن محمد صلاح يقلد صلاة النصارى عند تسجيل الأهداف.
وطالبه كاتب مصري بحلق لحيته.. اللحية شبهة، فمنه العوض وعليه العوض.
هو لاعب بكرة قدم، وليس داعية مثل طارق رمضان، ولا عالما مثل فادي البطش، الذي كاد أن يدفن في أرض غريبة، إنه كان منصوراً. من قرية نجريج، وليس من المنوفية، بلد الزعماء، فلعلها بشرة خير. وإذا عُيّر بأنه يباع ويشترى في نخاسة سوق القدم البيضاء الناعمة الملكية، فالردّ: إن كل ملوك الكرة، الذين يتقاضون أجورا خرافية يباعون ويشترون. وقد يقال: إن النبي يوسف عليه السلام بيع وشُري بدراهم معدودة، وقصة العز بن عبد السلام مع بيع الأمراء، مشهورة، حتى إنه لقب ببائع الأمراء. كرة القدم باتت محل صراع دولي، ومكاسرة اقتصادية، وفيها متعة كبيرة وبأس شديد أيضاً، ترامب غاضب من المغرب، التي يمكن أن تفوز باستضافة كأس العالم سنة 2026، وتخطفها من أمريكا. وعن بأس كرة القدم، وبؤسها، يروي عبد الوهاب المسيري قصة نجم كرة قدم، لديه ثروة بملايين الدولارات، لكن مدربه الذي اشتراه، لا يسمح له بغشيان صاحبته إلا بإذنه، حرصاً على أهدافه ولياقته، ولا يأكل إلا ما يختاره له سيده، كان يبكي ويقول: أنا عبد تعبده الأحرار.
أمس باع نادي روما محمد صلاح لنادي ليفربول، بسعر عدّه المراقبون زهيداً، تحوّل بعدها إلى أفضل لاعب في العالم، وجعل العرب يجدون فيه عزاء ربيعهم المنكوب. جمع محمد صلاح حسن اللعب، ولم ينس حظاً من الجدّ، سحر الغرب بخلقه وأدبه، وهو أكثر لاعب عرفته الملاعب أدباً وتواضعاً، يسجل الأهداف عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم. زوّجَ ألف مصري كانوا سيعيشون طويلا بنصف دين لولا كرمه. والزواج في مصر أشقّ من فتح ترعة السويس، التي فتحها السيسي. وتبرع لنادي قدماء الرياضيين، ولجمعية أزهرية، ولصندوق تحيا مصر الأسود.. يقول البعض إنها ديّة لا بد منها. واقتبس السيسي المشير، فاتح الترعة، ذات نفسه، قبساً من الشرعية السياسية من صورة مع محمد صلاح. اختار اسم عاصمة الإسلام والمسلمين، مكة، لابنته، وتحدثت فضائيات مصرية توصف بأذرع السيسي، عن مؤشر السعادة، فلم تشر إلى محمد صلاح من قريب أو من بعيد، لكن تقارير غير رسمية مصرية، أكدت أن محمد صلاح أمسى أسطورة مصرية، ففوانيس رمضان التي تحمل اسمه تباع أسرع من غيرها. بات محمد صلاح مصباحاً سحرياً، والجنيّ المحبوس فيه أيضا. أما في بريطانيا، فتقول الجالية المسلمة، التي عانت في شهر نيسان/ أبريل المنصرم من رهاب الجماعات المتطرفة المعادية للمسلمين، وعاشوا في خوف كخوف يوم الخندق، إلى أن منَّ الله عليهم بقدم السعد، فانقشعت الأزمة، وسارت مظاهرات من مشجعي ليفربول، تهتف
باستعدادها لاعتناق الإسلام من أجله، بل إن بريطانيين قصدوا المسجد، وصلّوا فيه من غير توحيد أو إسلام، حبّا بمحمد صلاح. وكان ماردونا الحشاش، قد جدّف يوماً وقال عن يده التي أدخلت هدفاً: إنها يد الله. والخلاصة أن قدم محمد صلاح أحسن من يد ماردونا الغشاش.
قناة العربية باتت تظهر عداءها الصريح للشعب السوري، وتوالي رئيس البراميل والسارين، ومن ذلك أنها عرضت صورة محمد صلاح مع صورة عبد السلام صلاح المتهم بالإرهاب في عملية باريس، مع أن رعاة هذه القناة سعوديون، لكن شعبية محمد صلاح اضطرت أمراء عاصفة الحزم إلى مهادنته، فأهدوه قطعة أرض في مكة، وهو غنيّ والفقراء أولى، ربما طمعاً بأن يحولها إلى ملعب، فيجمعون بذلك مجد كرة القدم إلى مجد رالي رامبل.
كان سميّه محمد علي كلاي ذا رأي ومروءة، عندما أرادت غرفة هوليوود أن تمنحه نجمتها في ممر الشهرة في لوس أنجلوس في كانون الثاني/ يناير من عام 2002، فرفض، إكراماً لاسم الرسول الذي سُميّ به، أن يوضع على الأرض، كما تقضي تقاليد التكريم، لكن محمد صلاح لا يبالي بتدليع اسمه إلى "مو". ومن المفارقات أيضا أن أبا مكة يحمل أشهر اسمين في ذاكرة الغرب من الحروب الصليبية: هما اسم النبي الأمي واسم صلاح الدين.
نتائج كرة القدم في أمريكا والصين وإسرائيل متواضعة، فليست الكرة مؤشراً مطلقا على العظمة، كما قال عبد الرحمن الراشد في برنامج "تسلل"، ويمكن أن تكون الدولة عظيمة من غير كرة قدم. فكرة القدم لا تصنع مجداً وحدها، وكان محمد صلاح قد أخفق في انتزاع لقب شخصية الأسبوع في سباق الأخبار في الجزيرة، سبقه على البطولة فادي البطش، لكن يد الشعوب العربية قصيرة، والعين بصيرة، والقدم مكسورة، والنفس مذعورة. تقول واقعة اغتيال الشهيد البطش: ممنوع استخدام العقل، الجزمة مباحة. كأنما نفر من ذل جزمة عسكرية قبيحة في الداخل، إلى عز جزمة رياضية ناعمة في الخارج. سأختم المقال الحائر بين الفرح والأسى، بواقعة من عهد الخليفة المنصور:
يحكى أن رجلاً مثلَ بين يدي المنصور، ورمى بإبرة، فغرزت في الحائط، ثم أخذ يرمي واحدة بعد الأخرى، فكانت كل إبرة تدخل في ثقب سواها، حتى بلغ عدد الإبر مئة، فأعجب المنصور به، وأمر له بمئة دينار، وحكم عليه بمئة جلدة، فارتاع الرجل، وسأل عن السبب، فقال له المنصور: أما الدنانير فلبراعتك، وأما الجلدات فلإضاعتك الوقت في ما لا ينفع.
إبرة الرجل كانت مهارة فردية، والكرة صارت دينا شعبيا، وهي تنفع إذا جدّ الشعب كله في وقت الجدّ، ولعب في وقت اللعب، والميزان مضطرب بينهما، ولن نطلب من محمد صلاح أن يعيد جزراً منهوبة، أو حقوقاً مسلوبة، أو أن يقود معركة مثل حطين، أو عين جالوت، لكن الواقع يدعونا أن ندعو متضرعين:
اللهم سدد رميه وكن معه ولياً ونصيرا.
اللهم عليك بأعداء ليفربول، فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين.