هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
"في بعض المواقف يتحتم على الرجال العاقلين القيام بأشياء غير معقولة"
وجدت الشرطة هذه العبارة في بداية تسجيل صوتي لرجل خطط لتحطيم كل المباني الحكومية والرسمية في البلدة التي يعيش فيها، وهذا يعني أنه لم يتحرك بدافع الغضب المفاجئ في لحظة، لكنه خطط لفترة طويلة، وسجل ملاحظاته في أوراق وعلى جدران ورشة السيارات التي يمتلكها، كما سجل عدداً من الأشرطة الصوتية (ساعتان ونصف) شرح فيها دوافع خطة الهجوم، واستغرق في التسجيل أكثر من شهر (من 13 نيسان/ أبريل حتى 20 أيار/ مايو عام 2004)، ثم أرسل التسجيلات كأمانة لدى شقيقه قبل أن ينفذ خطته المفزعة في الرابع من حزيران/ يونيو، وهي الخطة التي تحفظها الوثائق باسم "ثورة الكيلدوزر".
"الكيلدوزر".. تسمية أطلقها الناس واستخدمها الإعلام لوصف المدرعة الحصينة التي صممها الرجل لتحطيم المقار الحكومية ومنازل المسؤولين، بعد أن وصل إلى طريق مسدود في تسوية نزاع يتعلق بالأرض التي أقام عليها ورشته. والتسمية محرفة من كلمة "بلدوزر"، بعد استبدال الحروف الأولى بحروف كلمة "kill" أي القتل، برغم أن "ثورة الكيلدوزر" حققت هدفها في تدمير المباني الحكومية فقط، ولم تتسبب في مقتل أي شخص إلا الثائر نفسه، والذي انتحر برصاصة بعد أن نفذ مهمته!
(2)
الثائر الذي صنع "الكيلدوزر" وقام وحده بثورة الغضب، هو "مارفن جون هيمير" الذي وعدتكم في ختام المقال السابق بالحديث عنه ضمن تأملات مظاهر العنف و"العنف المضاد" بين الأفراد وما أسماه هوبز "وحش الدولة". وكما نلمح من مدخل المقال، يبدو "هيمير" مواطناً أمريكياً عادياً يصف نفسه بأنه "عاقل"، لكن العقل نفسه هو الذي أجبره على القيام "بأفعال غير معقولة"، كما قال في تسجلاته. وحسب شهادات الجيران والمعارف التي جمعتها الشرطة، فإن "هيمير" كان شخصاً اجتماعياً هادئاً محبوباً لم تظهر عليه أية تصرفات عنيفة، انتقل إلى بلدة "جراند ليك" بولاية كولورادو قبل 12 سنة من ثورته، ولم يكن لديه أقارب في البلدة. وبعد فترة قصيرة من قدومه (عام 1992) اشترى قطعة أرض مساحتها تزيد عن فدانين، بمبلغ 42 ألف دولار ليقيم عليها ورشة لحام وإصلاح شكمانات السيارات، وبعد سنوات قررت إحدى الشركات إقامة مصنع للخرسانة بجواره وعرضت عليه بيع أرضه مقابل 250 ألف دولار، ووافق في البداية قبل أن تصله معلومات عن القيمة الاستثمارية المرتفعة للأرض، وعن تشابك المصالح بين المستثمرين وموظفين كبار في مجلس المدينة، فرفض البيع فتم رفع السعر إلى 345 ألف دولار، لكنه طلب مليون دولار، فبدأ المستثمرون بمساعدة المسؤولين في التضييق عليه، وتم بناء المصنع وإغلاق الطريق إلى الأرض بسور ضخم، وبدأ نزاع كبير بين "المواطن هيمير" وبين الدولة، ممثلة في "مجلس المدينة" الذي أعطى التصريحات اللازمة للمصنع، مما أدى لحصار "مشروع هيمير" واقترابه من الإفلاس، بعد فرض غرامات متكررة عليه بحجة مخالفات مرافق وتخزين خردة في غير الأماكن المخصصة، ومثل هذه المنغصات التي يجيدها ثعابين البيروقراطية في الإدارات الفاسدة. ووجد هيمير نفسه في دوامة من النزاعات استهلكت حياته ومدخراته، في الوقت الذي تتعاون فيه "الإدارة" مع أصحاب مصنع خلط الخرسانة لفرض الأمر الواقع وابتلاع مشروع هيمير، وإجباره على التنازل عن أرضه بعد أن أصبحت محاصرة وبلا قيمة.
(3)
من بين الشهادات التي جمعتها الشرطة عن هيمير، شهادة لشقيقه يقول فيها: "إن أخي طيب ومسالم، لكنه ليس من النوع الذي يتراجع خوفاً أمام أي شخص؛ لأن إحساسه بكرامته يدفعه لخوض أي صراع حتى النهاية". واعتقادي أن هذه الشهادة تفسر الكثير من التصرفات التي بدأ هيمير يستعد بها لخوض الصراع مع "الوحش"، فقد قام بتأجير جزء من أرضه لشركة نفايات، واشترى جرافة (بلدوزر) قبل الثورة بعامين ليستخدمها في تمهيد طريق بديل إلى أرضه، لكنه لم يستطع الحصول على تصريح بذلك، وشعر أن تحالف المسؤولين مع المستثمرين من "عائلة دوشيف" قد عزموا الأمر لإجباره على تنفيذ ما يريدون، فقرر تصعيد الصراع إلى نهايته، وشرع في إجراء تعديلات على الجرافة لتحويلها إلى مدرعة مصفحة بالفولاذ الصلب. واستغرق في ذلك عاما ونصف تقريبا؛ كان يسجل خلالها ملاحظاته، فيصف ما يفعله مثلاً بأنه "مشروع بدوام جزئي على مدار سنة ونصف"، ثم يسخر من تغافل الأجهزة والمجتمع نفسه عما حدث معه وعما يستعد له فيقول: "من العجيب أنهم يتركونني أفعل كل ذلك ولم يتم اعتقالي، فقد دخل الورشة العديد منهم خلال العام الماضي، لكنهم لم يلاحظوا الجرافة المعدلة.. والدروع التي لا بد وأن تثير اشتباه أي إنسان يفكر.. لكنهم لا يفكرون، وإذا فكروا فإن تفكيرهم ضحل وفي الاتجاهات الخاطئة!"
(4)
في الرابع من حزيران/ يونيو، كان هيمير قد انتهى من تجهيز كل بنود خطته، فدخل المصفحة وأغلقها باللحام حتى تحولت إلى كتلة من الصلب لا يمكن النفاذ إليها. ولكي يتمكن من الرؤية، وضع في مخابئ خارجية كاميرات محصنة بزجاج مضاد للرصاص وموصولة بشاشات يتابع منها حركة الشارع، وزرع فوق الكاميرات "مراوح" لإزاحة الأتربة أثناء اقتحام وهدم المباني، كما وضع عدة بنادق ورشاشات في فتحات خاصة يتحكم بها من الداخل، وبدأ بهدم منزل العمدة ومكاتب البلدية، واستمر حتى دمر جميع المباني التي وضع بها قائمة تم العثور عليها بعد ذلك. على الرغم من أن قوات الشرطة أطلقت عليه أكثر من 200 طلقة وفجرت في طريقه ثلاث عبوات ناسفة، لكنها لم تؤثر في المدرعة الفولاذية. وبينما عجزت الشرطة تماما عن إيقاف هيمير، لم يطلق من جانبه رصاصة واحدة على أي فرد، لكنه بعد ثورة مذهلة ومخططة بعناية استمرت 127 دقيقة، وحققت الأهداف الانتقامية التي وضعها، لم يكن هناك سبيل إلى العودة، ولم تكن الخطة أصلاً للانتصار واستعادة الأرض، لكنها كانت مجرد رسالة، وقد شعر هيمير أن رسالته انتهت عند هذا الحد، فأطلق رصاصة واحدة على نفسه وأنهى الصراع. ولما سكنت حركة المدرعة لفترة من الوقت، أدركت الشرطة أن "العملية انتهت"، وشرعت في استخراج جثمان هيمير في مهمة استغرقت ساعات طويلة حتى فجر الخامس حزيران/ يونيو.
(5)
انتهت ثورة الكيلدوزر بعد 127 دقيقة من الهجوم الجراحي الذي شنه هيمير، لكن الثورة الإعلامية وأحاديث الناس كانت قد انفجرت حتى شملت أمريكا كلها.. إنها 11 أيلول/ سبتمبر محلية، لكن المدافعين عن هيمير وصفوه بأنه "بطل شعبي" لأنه حرص على عدم إيذاء أي شخص خلال ثورته، إنه ليس قاتلا، فقد أطلق الرصاص على محولات كهرباء وخزانات غاز تخص المقار الحكومية. وتوسع الجدال بين المتعاطفين مع هيمير وبين فريق العمدة الذي سعى لإدانة هيمير بأن انفجار الخزانات كان من الممكن أن يؤدي إلى خسائر بشرية، وادعى بأن بعض المباني التي تم تدميرها كان من المفترض أن تقام فيها دورة تدريبية لبعض الأطفال. واستمر الجدال يتصاعد في اتجاه الإعجاب بثورة هيمير والانبهار بمدرعته التي أطلق عليها الناس اسم "الكيلدوزر، وطالبوا بالاحتفاظ بها في متحف، أو الحصول على أجزاء منها كهدايا تذكارية، لكن السلطات قررت التخلص منها تماما حتى لا تساهم في تخليد هيمير وثورته.
(6)
الملفت بالنسبة لي أنه في أمريكا التي تلقي المواعظ للآخرين عن كيفية التعامل مع المواطنين وفق القوانين، والتي تزخر بآلاف الأبحاث لضمان عدم تحول المواطن المسالم إلى العنف والإرهاب، والتي تنفق المليارات على ما تسميه "الإرهاب الإسلامي"، هي الدولة التي قدمت للعالم "نموذج هيمير"، المواطن الذي قاد "ثورة الكيلدوزر" بعد أن كتب بخط يده قائمة أهداف لمؤسسات يجب تدميرها لأنها دمرت حياته، وقد تضمنت القائمة كلا من مقر العمدة ومجلس المدينة والشرطة والكنيسة جنباً إلى جنب، بالرغم من أن تسجيلات هيمير أشارت إلى إيمانه بالرب، فقد قال في أول تسجيل له: "إن الله اختارني وهيأني لهذه المهمة.. لذلك كانت حكمته أن لا أتزوج وأن لا تكون لدي عائلة"، كما قال: "أؤمن أن الله هداني للحصول على هذه الآلة، لأقودها وأفعل ما أفعله.. لقد بارك الله خطواتي سلفاً وأعانني لتنفيذ المهمة التي سأقوم بها..". وفي عبارة واضحة الدلالة قال هيمير:" هذا واجبي ودوري.. إنه صليب أحمله باسم الله".
(7)
عرضت قصة "هيمير" بتدخلات طفيفة من جانبي، ولن أناقش في هذا المقال دوافع "هيمير" ولا مدى صحة وخطأ ما فعله؛ لأن القصة مدهشة وتحتاج إلى تأمل هاديء، فهي قصة طويلة وممتدة ومتكررة عن ذلك الرجل الذي يُقدم في لحظة على محاولة استخدام سنارة لاصطياد "ليفياثان"..
وفي المقال المقبل أحكي لكم عن "ليفياثان".