عمد بعض الباحثين إلى تقديم تفسير ديني للاستبداد، بمعنى القول بأن
الدين نفسه يحض على
الاستبداد، أو أن الدين نفسه يتم توظيفه وتبرير الاستبداد به. وقد أشار الكواكبي إلى هذه النقطة في كتابه حول طبائع الاستبداد ومصارع
الفساد، حيث أكد الارتباط بين الاستبداد والفساد. فالاستبداد نفسه هو قمة الفساد، والمستبد لا بد أن يسمح بالفساد لفئة من أعوانه حتى يكونوا سندا له في استبداده، ولذلك لا ينطبق القول بأن المستبد يكافح الفساد. والحاكم بحاجة إلى من يبرر له من رجال الدين سلوكه الاستبدادي، حتى قال شاعرهم: ما شئت لا ما شاءت الأقدار... فاحكم أنت الواحد القهار.
ولا تزال هذه الثقافة موجودة في نفوس الحكام العرب بدرجات متفاوتة. فالسطوة والقوة من خصائص إله، والحاكم يسرّه أن يستمد سلطته من إله مثلما فعل الفراعنة، ومثلما سوّغ بعض فقهاء السلطان وشعراؤه سلوكه من الدين.
ولكن هناك فرقا بين أن الدين يحض على الاستبداد، وبين أن الحاكم المستبد يوجه منافقيه إلى توظيف الدين في خدمة الاستبداد وتبريره. فالدين بستان واسع تستطيع أن تنتقي منه ما يروق لك، ويحتمل عند المنافقين الوجهان معا، فصارت التجربة الإسلامية مقرعة بالاستبداد مع استثناءات نادرة، ولذلك ميّز الباحثون بين تجربة الرسول وخلفائه الراشدين، وبين ما تلاه من عصور.
والحق أن الاستبداد ثقافة وسلوك وليس طبيعة متوارثة، وهو تربية قابلة للتعديل والتغيير، فلا يولد أحد مستبدا والآخر ديمقراطيا، ولكن يولد الإنسان مساويا لأخيه الإنسان وعلى الفطرة، فكما أن والديه يمسحانه أو يهودانه عن طبيعته الفطرية الإسلامية، فهما أيضا يدربانه على الاستبداد من خلال آرائهما الاجتماعية والسياسية.
فلا يمكن للدين المنزّل من الخالق أن يخلق فئة مستبدة وفئة ديمقراطية، ولا يمكن أن يقبل أن يظلم المستبد خلق الله، وأن يستكبر على أقرانه ويتشبث بسلطة الله على عباده، فهذا يدخل في باب الكبائر.
والخلاصة: إن الإسلام بريء من الاستبداد، وكذلك كل الأديان، كما أن تحديث الثقافة العربية حررت هذه الثقافة من كثير من التراث الثقافي العربي القديم، فقد تسببت الهجرة وانشغالات السكان في توسيع مدارك العرب، وحررتهم من قبضة الثقافة المحدودة التي كانوا أسرى لها منذ آلاف السنين. وإنما التفسير الصحيح للاستبداد هو استخدام القوة وأدوات القهر وتغييب العقول، فصارت العقلية العربية في عمومها أسيرة التخلف التربوي، ولم تصادف برنامجا تربويا لإصلاح علاقة الأب والرجل عموما بأسرته وعدم التعسف في توظيف الدين لتأييد ظلم الرجل للمرأة بحجة المجتمع الذكوري، وكذلك إصلاح علاقة الحاكم بالمحكوم، وآداب هذه العلاقة التي يمكن للقانون والحرص المتبادل على المجتمع والسلطة باعتباره جزءا من المجتمع، سواء كان النظام ملكيا أو جمهوريا.
وأخيرا، نشير إلى إصرار الغرب على وصم العرب والمسلمين بالاستبداد الجيني وعدم الصلاحية للديمقراطية؛ لأن
الديمقراطية قاصرة على الأحرار الأسياد، ولا يجوز أن يتشابه الأسياد والعبيد في نعيم الديمقراطية، ولا بد أن يجني العرب والمسلمون الثمار المرة للاستبداد الذين حرصوا عليه حاكما ومحكوما، ولم يفلت منه حتى المتعلمون والمتأسلمون منهم.