هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يشتد الخطاب الإسلامي المعاصر عموما، والسلفي على وجه الخصوص في الدعوة إلى المحافظة على مباني الإسلام الأربعة (الصلاة والصيام والزكاة والحج)، لكنه لا يحفل كثيرا بالدعوة إلى العدالة والشورى في شقها النظري وتجلياتها في الممارسة السياسية بحسب باحثين ومراقبين.
كما يسارع أتباع ذلك الخطاب إلى إنكار كثير من مظاهر التفريط في تلك العبادات والتكاسل في أدائها، لكنهم يتقاعسون عن القيام بذات الدور تجاه المنكرات السياسية (السلطانية) المخالفة للعدالة والشورى فما هي أسباب ذلك؟ وهل العدالة والشورى تكاليف وقيم فرعية هامشية أم أنها من أصول الدين تماما كما هي مباني الإسلام الأربعة؟.
في تحليله لتلك الحالة أشار الباحث الشرعي المصري، المتخصص في الفقه الإسلامي وأصوله، علي ونيس إلى عدة أسباب، من أبرزها "عزل الخطاب الديني عن واقع الناس بصورة ممنهجة من بعض الساسة، لئلا يتيقظ في جمهور المخاطبين داعي المطالبة بالعدالة والشورى كحق ثابت لجميع الأمة".
وأضاف لـ"عربي21": "وقد يتحول تبصير الناس بهذين المطلبين إلى جريمة تجلب على صاحبها الويلات الكثيرة، ما يدفع الدعاة عموما إلى تجنب الكلام عن هاتين القيمتين المهمتين إيثارا للسلامة أحيانا، أو المحافظة على دعوتهم في أحايين أخرى".
ووفقا لونيس فإن "المجتمع الإسلامي منذ زمن غير بعيد صار في أغلبيته يعيش حياة بعيدة عن هذه الثقافة التي تتصل اتصالا وثيقا بالسياسة الشرعية، وإذا ما قام فيهم من يعلمهم هذه المعاني والقيم انصرفوا عنه، بل وأحيانا يتهمونه بأنه يتكلم في السياسة، وكأن الكلام عنها جريمة، مع أنها من أبسط الحقوق التي كفلها شرعنا الحنيف".
ولفت ونيس إلى أن "بعض الدعاة لم يتضعلوا في علم السياسة الشرعية (لاسيما الاتجاه السلفي)، وحصروا أنفسهم في أبواب العبادات والمعاملات الفردية دون السياسات العامة، واشتغلوا بالحديث عن البدع وأسبابها وأنواعها وطرق محاربتها، وهذا على الأغلب، إذ يوجد منهم من يهتم بهذه القضايا لكن على ندرة واستحياء" على حد قوله.
وأوضح أستاذ الفقه وأصوله أن "قيمتي الشورى والعدالة من صميم الإسلام وأساسياته الهامة، فعلى أساس الشورى يتم اختيار الحاكم، وأما العدالة فهي أساس الملك وقد اتفقت على ذلك الأديان السماوية جميعها وسائر التشريعات الوضعية".
من جهته قال الأكاديمي الأردني المتخصص في الدراسات الشرعية، أنس عناية "إذا ما استعرضنا القرآن الكريم فإننا نجد ما يقرب من خمسة ألاف آية، من مجموع آياته البالغة (6236) تتحدث عن توحيد الله، والقيم الكبرى في الكون ومصير الأمم السابقة، أما الجوانب الفقهية كالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والعقوبات فلا تكاد تتجاوز الـ 500 آية، أي أقل من 10% من نصوصه الكريمة".
وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول "وفي هذا دلالة مهمة على أن الفروع لا تعمل إلا إذا أحكمت أصولها، وأن الجزئيات لا تعمل إلا إذا ضبطت كلياتها، ومحاولة تطبيق الفروع والجزئيات في ظل نظام وكليات لا تتفق معها سوف يفضي إلى أن تتحول هذه الجزئيات إلى تطبيقات مشوهة غير منتجة، يتم تحويرها لتتماشى مع الأصول".
وأشار عناية إلى الحالة السلفية في تجلياتها العلمية والرسمية باعتبارها مثالا حاضرا بقوة في هذه المنظومة، فهي تلعب دورا محوريا – جهلا أو قصدا – في صرف المجتمع عن جوهر الإشكالات التي يعاني منها بحسب قراءته.
وواصل عناية توضيحه قائلا: "فالتوحيد مثلا – والذي يمثل عنوان هذا التوجه – يدور في هذه المنظومة حول معاني محدودة في مقابلة التصوف والتوجه الأشعري في فهم النصوص العقدية، بينما يغيب جوهر التوحيد المتمثل في تخليص المجتمع من العبودية للظلمة والمستبدين، بل على العكس من ذلك يحضر التوجه السلفي بقوة لإضفاء الشرعية عليهم".
وشدد الأكاديمي الشرعي الأردني على ضرورة "تجنب الخوض في الجزئيات والظنيات حال مناقشة أتباع تلك الاتجاهات، والتي يمكن الرد عليها، لكن دعاوى السلفية في إضفاء الشرعية على الظلمة سرعان ما تتهاوى عند عرضها على الأصول والكليات والقطعيات".
وتوضيحا لذلك ضرب مثالا بمسألة تقرير ولاية المتغلب، الهادمة لقيمة الشورى إذ إن مناقشتها من خلال الخوض في تفاصيلها كـالشروط الواجب توافرها في المتغلب كي يقر على حكمه مثلا، لا توصل إلى نتيجة تطمئن إليها النفوس، ولكن إن نوقشت المسألة على مستوى الأصول والقيم تتهاوى ولاية المتغلب كلها من أساسها.
وأنهى عناية حديثه بقوله "وعوضا عن سؤال: متى تصح ولاية المتغلب؟، يغدو السؤال: إذا كانت ولاية المتغلب غير شرعية وتتعارض جوهريا مع الإسلام الذي عظم الشورى وجعلها الطريق الأمثل لاختيار الحاكم كيف أقرها الفقهاء السابقون؟ وكيف أصبحت جزءا من العقائد التي يزعم أنها محل إجماع؟ لنجد أن ولاية المتغلب أقرت في ظروف خاصة ومناطات متعلقة بسياق تاريخي اجتماعي معين، لا يصح إسقاطه على كل زمن وحال.
بدوره أرجع الباحث الإسلامي طارق عمرو تلك الحالة إلى شيوع نسق تدين الخلاص الفردي ، الذي يركز على التزام الفرد الشخصي، من غير أن يحفل كثيرا بالعبادات المجتمعية بتكاليفها الشرعية وفروضها الكفائية.
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "فكما أن الإسلام أمر بالعبادات الفردية كالصلاة والزكاة والحج والزكاة، فقد أمر كذلك بعمارة الأرض وإصلاحها، ولا يتحقق ذلك إلا بتحقيق العدالة، والالتزام بالشورى، وحرص الأمة على ممارسة دورها في اختيار من يحكمها، وما إلى ذلك من مطالب شرعية، التي لا تقل أهمية عن تلك العبادات الفردية".
ودعا عمرو الاتجاهات الإسلامية والمتدينين كافة إلى ضرورة الارتقاء بمستوى تدينهم لمواجهة التحديات المعاصرة المفروضة عليهم، بالانخراط الجاد في تحمل واجبات وأعباء الفروض الكفائية، والمطالب الشرعية المجتمعية التي لن يكون للمسلمين نهضة ما لم يشتغلوا بها بوعي وجدية.