(1)
تركت أمامي في مصر أوراقاً تتضمن ملاحظات ومسودات مشاريع للكتابة الطويلة والقصيرة.. أقول "أمامي وليس ورائي"؛ لأنني لم أهملها وآمل أن أعود إليها قريباً (مصر والكتابة المؤجلة).
من بين الملاحظات التي أستدعيها اليوم، مخطط مقال عن
الغطرسة في دوائر الحكم العليا، وبالتحديد بين رؤساء الدول وكبار قيادات الحكم. وملاحظاتي المدونة تتضمن شهادة لصحفي فرنسي كبير عن لقاء حضره بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس الفرنسي حينذاك، ساركوزي. ويومها تحدث بوتين بغضب وغطرسة مهددا بسحق رأس ساركوزي. على ما أذكر، حدث ذلك أثناء قمة مجموعة "الثماني" في موسكو عام 2007. وكان نيكولاي ساركوزي صريحا في انتقاد ممارسات روسيا القمعية في الشيشان، كما استفسر عن خلفيات اغتيال الصحافية "آنا بولتكوفسكايا"، وحينها نظر إليه بوتين باستخفاف وقال له: عظيم.. هل انتهيت من مواعظك؟.. انظر إليّ جيدا.. إن بلدك بهذا الحجم (وأشار بكفيه كأنه يمسك كرة صغيرة)، أما روسيا فبهذا الحجم ( وفتح ذراعيه بانفراجة كبيرة). ثم أضاف: والآن لن أطالبك بالصمت، بل باختيار طريقة من اثنتين للحديث معي: إما أن تواصل بهذه الطريقة فأحطمك تماماً، أو تتحدث معي بما يناسبني فأجعلك ملكاً على أوروبا.
لكن ساركوزي لزم الصمت، وخرج من لقائه مع بوتين محطم الأعصاب، فصعد إلى غرفته ليشرب كل ما وجده من الخمر، ولما حان موعد المؤتمر الصحفي كان في حالة مضطربة ومزرية؛ لم يعرف أحد أسبابها الحقيقية حتى خرج الصحفي الفرنسي "نيكولا هينين" ليكشف عما حدث.
(2)
الملاحظة الثانية المسجلة في مسودة ذلك المقال تتعلق بالتهديد الذي كشف عنه نائب رئيس الجمهورية المستقيل في مصر، محمد البرادعي، حول اتصال تلفوني من شخصية مسؤولة قال له بلفظة صريحة: "لِم نفسك وإلا ح ندمرك". وكان الخلاف حينها بشأن محاولات البرادعي التوصل مع الإخوان لأساليب سلمية لفض اعتصام ميدان رابعة العدوية، لكن البرادعي فوجئ بمقال عنيف لكاتب كبير يهاجمه في صحيفة قومية (الأخبار) وهو لا يزال في منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، ولما سأل عرف أن ذلك الكاتب قريب من أجهزة الدولة ولا يهاجم بمبادرة شخصية. (وشهادة حق أوضح أنني سألت الراحل جمال الغيطاني عن خلفيات كتابته لهذا المقال، فأقسم لي أنه كتبه من وحي اللحظة غضبا من تعنت جماعة الإخوان ومحاولتهم لفرض العنف كأسلوب يهدد الدولة والمجتمع). لكن البرادعي فوجئ أثناء متابعته للفضائيات في برامج المساء بتصعيد الحملة ضده بشكل لافت، ثم تلقى بعدها المكالمة "المتعجرفة" الحاسمة (اخرس وإلا..!!)، وكان التهديد كافيا لاستقالة البرادعي وسفره السريع خارج مصر، وهو السفر الذي لم ينته حتى الآن.
(3)
كنت أعتبر مثل هذه التصريحات تعبيرا عن "الغطرسة" التي تستولي على أدمغة بعض الحكام، وتدفعهم للتخلي عن
الدبلوماسية في التعامل مع قيادات ومسؤولين كبار، لكن
تصريحات ترامب الأخيرة ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جعلت وصف "الغطرسة" لا يكفي للتعبير عما أشعر به. وجلست بعض الوقت أفكر في حالة "جنون القوة" التي وصل إليها العالم في المرحلة المختلة التي نعيشها، وتذكرت أن التاريخ مليء بمثل هذه المواقف بين الحكام، لكنها - كما قلت - ظلت في حدود "الغطرسة"، وتذكرت ما كتبه المحللون وأساتذة التاريخ السياسي عن الإمبراطورية الرومانية وبدايات مفهوم "غطرسة القوة" في السياسة بين الدول، ورأيت أن الوصف الذي يليق بتصريحات
ترامب هو "العجرفة" وليس الغطرسة، وربما أيضا "الجلافة"، ولسبب ما (يتعلق ربما بموسيقى الحروف) اعتبرت أن "الغطرسة" قريبة من السياسة بسبب اشتراكهما في حرف "السين"، بينما العجرفة والجلافة مفاهيم بدائية خشنة تليق بالأفراد الهمجيين الذين يستخدمون اللغة، ويتصرفون في الحياة باندفاع "القوة الغاشمة" التي تخلو من الاختيار الثاني (الإغوائي) الذي طرحه بوتين على ساركوزي، ليحثه على الطاعة ويحصل على مكافأته بدعم سلطته داخل أوروبا. أما بوتين وصبيانه من "قتلة الخرابات" و"حاملي المناشير" فليس لديهم إلا العصا؛ لأنهم قرروا احتكار كل الجزر (والبطاطس أيضا) لأنفسهم.
(4)
تصريحات ترامب الهجومية الوقحة في حق
فرنسا ورئيسها، انطلقت من منصة شخصية، وهو حساب تويتر الرسمي لترامب، لكن الحساب الرسمي للرئيس الأمريكي لا يجب التعامل معه كحساب فردي يعبر عن انفعالاته المريضة وسلوكه الأهوج، لأنه جزء من السياسة الأمريكية، وأي خروج عن تقاليد هذه السياسة يشين المؤسسة أكثر مما يعيب شخصا أحمق يتعامل مع العالم باعتباره شركة من شركاته، ويتعامل مع الرؤساء باللغة والأخلاق التي كان يتعامل بها مع الساقطات اللاتي يحتشد بهن تاريخه الطائش.
الحكاية أن ساركوزي تحدث من منطلق الوجع الأوروبي من الحروب القديمة؛ عن
فكرة إنشاء "جيش أوروبي" لحماية القارة التي عانت من حربين كبيرتين، خاصة وأن حديثه جاء في أعقاب احتفالات الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، لكن "الرئيس المتعجرف" شن سلسلة تغريدات أهان فيها ماكرون وفرنسا وأوروبا كلها، وغمز على انخفاض شعبية ماكرون، وهاجم خنوع الشعب الفرنسي، مذكرا إياهم بأنهم استسلموا لهتلر وبدأو في تعلم اللغة الألمانية، ولولا أمريكا لكانت ألمانيا تحتلهم حتى اليوم، واتهم بقية حلفاء أمريكا في الناتو بأنهم ضعفاء ولا ينفقون على الدفاع ولم يسددوا ما عليهم من ديون للناتو.. وبرغم كل هذه الإهانات، تريثت فرنسا وتجاهلت أوروبا في عملية "تبريد" لأي احتقان محتمل في العلاقات، لكن السياسة في أوروبا عادة لا تقوم على رد الفعل السريع، بل على دراسة الأمر من كافة جوانبه لاتخاذ القرار الاستراتيجي الذي يعالج الخلل، ويحافظ على مكانة أوروبا وصورتها أمام شعوبها. لذلك، جاءت التصريحات هادئة، واعتبرت التغريدات في حدود الرسائل الداخلية التي يدعم بها ترامب شعبيته، لذلك وجهها بالإنجليزية وليس بالفرنسية، واختار لها "تويتر" وليس منصة إعلامية رسمية، بينما رأى آخرون أن هذا "الخطاب الشعبوي" يجب أن لا يمر دون ضمانة بعدم تكراره، ودون أن يترك انطباعاً بأن واشنطن تعامل الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي باعتبارها ولايات خاضعة، أو دول عالمثالثية تابعة. لذلك، فإن تأثيرات ترامب على العلاقات الأمريكية الأوروبية، وعلى دور واشنطن في السياسة الدولية، ستتخذ مسارات قد تعيد ترتيب المواقع في رأس الهرم الذي يهيمن على العالم. ولنتابع بوعي وتحليل ما يدور في الكواليس؛ لأن العالم لن يبقى على حاله في مرحلة الحكام الحمقى. والسؤال الذي نتلهف للإجابة عليه ليس "هل يتغير العالم أم لا؟"، ولكن: "إلى أين يتجه؟ وكيف ستكون التحالفات وتركيبة القوى الجديدة التي تقود العالم في المرحلة اللاحقة؟".
(5)
لا تخدعنكم الانتصارات الواجفة، فلن يدوم طيش "المنشار"، ولن تستمر تهديدات الحمقى وتغريدات المتعجرفين. فكما قضت "الغطرسة" على الإمبراطورية الرومانية، ستقضي "العجرفة" على الإمبريالية الأمريكية، فالحماقةُ لا تصنع انتصارات تدوم.
[email protected]