(1)
لم أعد أميّز بين العام والخاص، ولا أكاد أعثر على حواجز وأسوار تفصل بين ذاتي وبين العالم، فقد وصل "المتماهي" إلى ذروة "النيرفانا"، حيث يفنى الخاص في العام، ويفرض العالم المهول تأثيراته الطاغية على كل فردٍ، سواء رغب في ذلك أم لم يرغب، سواء عرف بذلك أم لم يعرف.. وهكذا، أصبح الحديث عن إفلاس تاجر صغير في قرية أفريقية وثيق الصلة بقرار ما في "وول ستريت"، كما أن لوعة أم في آسيا منبعها تصرفات جنرالات متبلدين في اجتماع للناتو، أو برودة دبلوماسيين متأنقين في منظمة دولية.. وهكذا يحدد المهيمنون على العالم موعد خطوبتك، وماركة الهاتف الذي تحمله، ونوع طعامك ومزاجك الشخصي..
(2)
يقولون إن تحويل البشر إلى "ماتريكس" كان دائما في مقدمة اهتمامات الطغاة وذئاب الألدرادو، فهل نجح هؤلاء الأشرار في حسم المعركة لصالحهم، وتمكنوا من "برمجة" الناس حسب جداول الحركة سالفة التحديد، بحيث أصبحنا محكومين بمسارات إجبارية، وجداول عمل لا نختارها، وبيئة تشبه معيشة عمال المناجم في صحاري لا يربطها بالحياة إلا سيارات يملكها المهيمنون تحمل الماء والزاد، ليس للإرواء والغذاء فقط، ولكن الأهم.. للتحكم والسيطرة؟
(3)
أتذكر حوارا قديما بيني وبين الأستاذ محمود أمين العالم عن الهيمنة والتنميط، وكان رحمة الله عليه يقرن كلمة "التنميط" بكلمة أخرى على سبيل السجع، هي "التبطيط"، لكنني اليوم أرى العلاقة بين الكلمتين علاقة مقدمة بنتيجة، فالتنميط يؤدي حتما إلى التبطيط. ولا شك أنكم تعرفون أن كلمة "التنميط" هي أقرب ترجمة تفيد بالمعنى المقصود من مصطلح "ماتريكس"، ولعلكم أيضا شاهدتم الثلاثية السينمائية التي حملت هذا الاسم، وتحذر من انهزام الإنسانية وسقوطها تحت سيطرة الهيمنة الرقمية وأرباب التحكم عن بعد.
(4)
ماذا أريد أن اقول؟
لا أريد أن اقول شيئا محدداً؛ لأنني ببساطة أريد أن أقول كل شيء.. أريد أن أناقش قضايا كثيرة، لكن العالم متداخل، بحيث يصعب عليّ الحديث في قضية أو موضوع من دون أن أتصادم وأتقاطع مع بقية قضايا وموضوعات العالم. وهذه هي مصيبة "المتماهي".. ينسكب في عالم منسكب، بحيث يصعب الفصل.
وأذكر أن الدكتور شريف حتاتة، رحمة الله عليه، قضى أمسية شتوية يحكي لي فيها عن هذا الإحساس، ويكرر عبارته التنبؤية التحذيرية: صدقني احنا بننداس وننسحق.. حبة القمح اللي هيفكر فلاح في "كفر يوسف" يزرعها.. مش هتكون فكرته.. هتكون لحظة خطط لها الكبار عبر المحيط، احنا هنتحول لآلات مستلبة بيتحكم فيها طغاة العالم بـ"الريموت كونترول"، ربما قال شيئا من ذلك في رواية "الوباء"، وقاله بوضوح أكثر في رواية "الرئيسة"، وقاله بتنويعات كثيرة على مدى حياته الطويلة داخل السجن وخارجه، لكن "التحذيرات القديمة" لم تعد كلاماً يُخشَى منه؛ لأنها صارت واقعاً نعيشه ونجد من يبرره في الإعلام وتصريحات المسؤولين. لقد صارت "التحذيرات القديمة" كابوساً يومياً تسميه السلطات "سياسة"، وتسميه أيضا "إصلاحاً اقتصادياً" و"خطط إنقاذ".
(5)
عندما أجلس لأكتب، أتذكر كلمات وكتابات الأولين، وأتذكر كم أهدرناها، وكم تجاهلنا ما فيها من تحذيرات وتنبيهات، فيصيبني شيء من الألم ومن العدم أيضاً، فما فائدة حمل الماء في "قربة مقطوعة"؟
السؤال الذي عشت "أقاوح" لتقديم إجابة إيجابية له، صار الآن محرجاً ومكرراً بدرجة تدعو للسأم والريبة؛ لأنني أكملت قبل أيام عامي الستين، وخرجت من رحلة هذه السنوات الطويلة خاوي الوفاض من أي أجوبة أو وفاء بالعهود والوعود التي بشرت بها قبل عقود، فلا الحرية استقرت، ولا العدل قام، ولا الأخلاق دامت.. وصلت إلى الستين من دون أن يتحقق شيء مما رفعنا راياته، وما أدراكم ما الستين في بلاد تضع الفرد على قائمة الراحلين الذين لا يصلحون للعمل.. سن الستين في بلادنا يعني أن تجلس على "قهوة المعاشات" أو ترتدي جلابية بيضاء وطاقية بيضاء؛ ثم تجلس منكمشا في زاوية صغيرة ممسكاً بالمسبحة في يدك منصرفاً عما يدور حولك في الدنيا، لتؤهل نفسك لحياة أخرى أكثر خلوداً من الأيام التي أنفقتها في دائرة مغلقة استهلكَتْ أيامك، كما استهلكت أيام أبيك وجدك.
هل آن لي الآن أن أستريح من معارك الأسئلة التي حملتها على ظهري لأكثر من نصف قرن؟
هل آن لي أن أعتزل كل هذا الدوران العبثي في الفراغ؟
هل آن لي أن أغير نفسي وفقط بعد أن فشلت في تغيير العالم؟
وهل يكون التغيير على مقاس الطغاة، بحيث لا تتصادم حركتي ولا إراداتي مع حركتهم وإرادتهم؟
باختصار: هل آن لي أن "أتمتركس" وأدخل قالب "التنميط" وأقبل بـ"التبطيط"، لأعيش كما يعيش المستلبون، بحثاً عن لقمة وحبة دواء وفسحة وقت للدعاء؟
(6)
بكل صراحة، أقول إنني فكرت في ذلك بعمق طيلة الشهور الفائتة.. فكرت في الاعتزال النهائي للحياة العامة. كانت محرضات الاعتزال تتلخص في ضعف الأدوات وشح المنابر وتراجع التأثير، بالإضافة إلى وجع الحياة وتأثير ضرباتها على كهل وحيد في منفى يبعد عن الأرض والأهل الذين لم يتصور أن يفارقهم يوماً. وفي المقابل، كانت هناك ممانعة تتمثل في معركة كرامة تربط بين وجودي على الأرض وبين عدم الاستسلام للطغاة، فلن تهنأ لي لحظة أخلو فيها إلى نفسي، كلما تذكرت أنني انسحبت مستسلماً تحت ضغط أعداء الحياة.
لكن هل أستمر كما كنت؟ وهل ألوك أيامي بتكرار مقيت لا يفضي إلى جديد، معلقا في مساحة باهتة بين عدم الخنوع وعدم الفعل، بين اللا سلم واللا حرب؟ هل أهرب من الأسئلة الصعبة إلى ملجأ الـ"بين بين"؟
(7)
في المقال المقبل أواصل طرح الأسئلة الصعبة، وهي أسئلة تبدو ذاتية، لكنها في عمق العمل العام، ولا بديل عنها لكي نتمكن من تحطيم أجهزة التحكم التي يفسد من خلالها ذئاب العالم كل شيء في حياتنا. وأدعو الله أن يمتد العمر والعقل لأكتب في المقال المقبل عن متلازمة "السياسة والندم"، كمراجعة لمسارات 2018، فإلى لقاء بإذن الله.
[email protected]