(1)
طالبتُ أكثر من مرة بضرورة فحص الديكتاتور عبد الفتاح السيسي للاطمئنان على قواه العقلية وصحته النفسية، ولم تنطلق مطالبتي من أي إهانة شخصية للرجل الذي تبدو الأعراض السيكوباتية واضحة في كلماته وتصرفاته. بالعكس، كنت أنطلق من نقطة عصرية حديثة في تطبيق المعايير العلمية السلمية لضمان سلامة المجتمع، وضمان سلامة الشخص محل الفحص، خاصة وأن السيسي نفسه يعرف أم مثل هذه الفحوصات وأكثر لا بد من تطبيقها على قائد طائرة، وبالتالي فمن الأولى تطبيقها على قائد دولة.
وكما تقتضي شروط الالتحاق بكليات الطيران مثلا إجراء فحوصات شاملة للطالب الذي يتقدم للدراسة، بحيث يتم الاطمئنان على توفر الصفات الصحية والنفسية والعصبية التي تؤهله لقياد طائرة، فمن الضروري أن نطبق هذه المعايير بنفس الجدية على المتقدمين للمناصب المؤثرة في قيادة البلاد، وفي مقدمتها منصب رئيس الجمهورية، كما يجب أن يخضع الرئيس لفحوصات دورية يتم إعلان نتائجها من جانب الجهة المنوط بها إجراء هذه الفحوصات، وهي جهة غير موجودة في مصر، لأن الهيئة الوطنية للانتخابات ليست إلا جهة شكلية هزلية تمارس صلاحياتها في حدود ما تمليه إرادة الجهة التي منحتها حق الوجود، وبالتالي فإنها لا تطبق المعايير الدستورية والديمقراطية بنزاهة وحياد، ومن ذلك شرط الفحص الطبي الذي لا يتجاوز منطقة تستيف الأوراق، أو استخدامه كوسيلة لتصفية المنافسين غير المرغوب في ترشحهم.
من الضروري أن نطبق هذه المعايير بنفس الجدية على المتقدمين للمناصب المؤثرة في قيادة البلاد، وفي مقدمتها منصب رئيس الجمهورية
((3)
قبل أيام كتبت عن
موقفي من مبادرة منسوبة لجماعة الإخوان المسلمين بعنوان "نداء لرفقاء الثورة، وكانت عبارات رفض المبادرة تتضمن توصيفات من نوع "الهذيان" والوسواس القهري" و"الارتياب المرضي" و"النكوص" و"الانكفاء"، وهي مصطلحات ترتبط بعلم النفس والأمراض النفسية أكثر مما تربط بعلوم السياسة وأمراضها، ولست بحاجة لإعادة التوضيح أن هذه التوصيفات لا تتعمد الإهانة أو الاحتقار أو السخرية، لكنها (كما شرحت في كلامي عن السيسي) تعبيرات علمية ينبغي الانتباه لها ومناقشتها. فإذا كانت توصيفات خاطئة نصححها، وإذا كانت صحيحة فإنها لا تفضي إلى حكم بالإعدام، بل إلى قرار بالعلاج وتحسين الصحة النفسية والعقلية، لتحسين الأداء تجاه الذات وتجاه الآخرين.
(3)
عندما فكرت في كتابة هذا المقال، لم أكن أفكر أصلا في استعادة الحديث عن صحة السيسي النفسية، ولم أكن أيضاً قد كتبت شيئا عن مبادرة الإخوان؛ لأنها لم تكن قد ظهرت، لكنني كنت أفكر في الصحة النفسية للمجتمع كله.. كنت أفكر فينا نحن، وكان تفكيري يتجاوز الأحاديث القديمة عن صفات الشعب المصري التي ترسبت بعد قرون من القمع والظلم والمركزية الطاردة، وهي صفات تحولت إلى "هوية شعبية نمطية" حسب استخلاصات بعض المستشرقين والمختصين بدراسة ما يسمى "الشخصية القومية"؛ الذين رموا المصريين بصفات مثل الفهلوة والخنوع ونفاق السلطة، وأحيانا العشوائية أو "الفرعنة"، أو استخدام الحيلة بدلا من المواجهة المباشرة.
وفي المقابل، انتقد دارسون مصريون هذا التنميط، وحاولوا إظهار الجانب الإيجابي من نفس القيم، فاعتبروا الفهلوة شطارة، واعتبروا الخنوع والنفاق والتحايل من وسائل تجنب ظلم الحكام، واعتبروا العشوائية نوعا من الحلول الشعبية لعلاج تقصير السلطة. وكما قلت، فإنني لم أكن أفكر في استعادة هذا الجانب من الأحاديث القديمة.. كنت أفكر أكثر في أعراض المرض النفسي التي ظهرت في المجتمع نتيجة الصدمة الهائلة التي أحدثتها ثورة يناير، بتطلعاتها وانكساراتها معاً.
تتضمن علوم النفس دراسات مستفيضة للأعراض الجمعية التي تصيب المجتمعات في أعقاب المحن، كالحروب والكوارث الطبيعية، أيضا في حال انكسار الأحلام وانهيار التصورات الجمعية
(4)
تعبير "الصدمة" يبدو لي مناسبا جداً لأنه يربط بين التاريخي والنفسي، وقد تم استخدامه كثيرا في تاريخنا. ولعل أبرز أمثلته يرتبط أكاديميا بانتقال مصر من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، حيث مثلت الحملة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر "صدمة" لوعي المصريين في العالم، أطلق عليها المثقفون: صدمة اللقاء الحضاري بين شرق متخلف وغرب متقدم. فقد كانت مصر مدفونة في كهف الوالي العثماني الذي يحرسه مماليك جباة احتكروا كل المزايا، وحبسوا الشعب في سجون الضنك والجهل والمرض. هذا على الصعيد التاريخي، أما على الصعيد النفسي، فإن أعراض المرض النفسي الجمعي تبدو واضحة في الفئات المتصارعة التي ورثت المجتمع القديم (المتماسك بالضرورة والإذعان)، ما أدى إلى تفسخ منظومة القيم القديمة دون قدرة على بناء منظومة غيرها. وبالتوازي، اتسعت رقعة المرض النفسي لدى الأفراد، وعجزت الوسائل القديمة والحديثة معا عن احتواء مخاطر هذه الأمراض، ما أدى إلى تصاعد معدلات الانتحار والاكتئاب والفصام، وهذا ما تشير إليه الدراسات المتعجلة التي تعتمد على الظواهر وعلى ملاحظات العيادات النفسية والمختصين في هذا المجال، وعلى إحصائيات مراكز الإحصاء البيروقراطية في "الدولة المريضة".
(5)
تتضمن علوم النفس دراسات مستفيضة للأعراض الجمعية التي تصيب المجتمعات في أعقاب المحن، كالحروب والكوارث الطبيعية، أيضا في حال انكسار الأحلام وانهيار التصورات الجمعية، كما حدث بعد نكسة 1967 التي اعتبرها باحثون مثل الفرنسي جيل كيبل سببا لحالة النكوص والانكفاء التي مهدت لانتشار ظاهرة الأصولية الإسلامية، كمظهر من مظاهر رفض مشروع التحديث العلماني، واعترافاً مجتمعياً بفشله في الوفاء بتعهداته، سواء من حيث الديموقراطية ومستوى المعيشة، أو من حيث المبرر المقابل لتأخير هذه المستحقات الداخلية نظير حسم الصراع العربي الصهيوني، لكن الشعوب لم تحصل على نصيبها الداخلي، ولم تحقق الهدف الذي تحملت التضحيات من أجله، فحدثت حالة الارتداد والعودة إلى الكهف بحثا عن أمان، أو تخلصاً من وطأة الأحلام صعبة المنال، أو تلمساً لأمجاد في ماض تصور البعض أن النجاة في استعادته كاملا بلا فرز يضع الحاضر والمستقبل في حسبانه.
(6)
الحديث عن "الصدمة" وما جلبته من أمراض نفسية، ينبغي أن لا يظل في دائرة القدر الاضطراي الذي يصيب الشعوب نتيجة ظروف طبيعية، أو مصادفات غير مقصودة، لكن الجانب الأكبر منه مصنوع وفق إرادات مضادة امتلكت فيها القوى المتربصة بمصر مفاتيح التحكم في المجتمع عبر دراسته أنثربولوجيا وسيكولوجيا، وعبر اختراق نخبته الهشة، وبالتالي فإن هناك من يصطنع الصدمة لإرباك المجتمع وتشتيته جميعا وتشتيت أفراده أيضاً.
ما يعنيني الآن هو الانتباه لأعراض الأمراض النفسية المتباينة التي أصابت مصر كلها أفرادا وجماعات بعد الصدمة الهائلة التي أحدثتها ثورة يناير، وهي صدمة فاصلة بين عالمين وبين عصرين
ومن يريد الاستفاضة في تفصيلات تصنيع الصدمة يمكنه مطالع كتاب المثقفة الكندية اليسارية "ناعومي كلاين"، المترجم بعنوان "عقيدة الصدمة"، لكن ما يعنيني الآن هو الانتباه لأعراض الأمراض النفسية المتباينة التي أصابت مصر كلها أفرادا وجماعات بعد الصدمة الهائلة التي أحدثتها ثورة يناير، وهي صدمة فاصلة بين عالمين وبين عصرين، ولا تقل خطورة وأهمية عن الصدمة التي أحدثتها قنابل نابليون ومطبعته، ومظهر حملته المفارق للحال الذي كان يعيشه المصريون؛ لأن يناير لم تكن مجرد صراع متخلف على السلطة، بقدر ما كانت لحظة ميلاد شعب يسعى لفرض نوعية السلطة التي يريدها، وهي سلطة غائبة في الواقع حاضرة في ذهن المصريين منذ قرون طويلة؛ لا أبالغ إذا قلت أن أول إشارة لها تكمن في شكاوى المصري الفصيح، وأول سعي للحصول عليها كان مع ثورة إيبور المغدورة، التي انتفض فيها الخدم محتجين على المظالم والانحطاط في فترة حكم بيبي الثاني في نهايات عصر الأسرة السادسة.
(7)
قد يغريني هذا المقال بالتوسع في رصد الأعراض النفسية لقيادات وجماعات تمارس سلوكاً عصابياً يبتعد بها عن السياسة وعن العقل السوي، وتبدو لي شخصية الدكتور أحمد عكاشة نفسه أفضل اختيار للبدء في هذه الدراسة، لربما تفاعل معنا وأفادنا برأيه المهم في هذا المجال.
[email protected]
الكاتب الصحفي جمال الجمل: الرئيس #السيسي بحاجة لفحص عقلي لدراسة تغير تصريحاته وانفعالاته@liliandaoud pic.twitter.com/80LUpz8nJO