لعل أبرز ألوان اللغو الشائع في خطاب جمهرة المحدثين من ذراري
المسلمين، من أصحاب الأيديولوجيات المختلفة؛ هي ديباجات "نظرية
المؤامرة"، وفي مقدمتها السخف الساذج الذي يلوكونه جهلا عن
الماسونية والماسون، وديمومة ربطهما الساذج والدائم بالصهيونية؛ لتعليق كل فشل يصيبهم بمؤامرة عالميَّة تُحاك ضدهم.
ونحن بادئ ذي بدء؛ لا نستهدف نفي دور العامل "التآمري" الخارجي في واقع الأمة، خصوصا إبَّان القرن العشرين، وإنما نستهدف فهم هذا العامل ونفي مركزيته، في إشارة ضمنيّة إلى وجود عوامل أخرى -لا تقل أهميَّة- وإن لم يتسع المقام لبسطها.
ورغم أن
الماسونية الرمزية (المحافل ذات الدرجات) تعتبر أهم آليات تحديث/ علمنة المجالين السياسي والثقافي، التي استعملتها القوى الكولونيالية في ديار المسلمين، إن لم تكن أخطرها وأكثرها فعالية على الإطلاق؛ فإنها لم تحظ إلى اليوم بدراسة حقيقيَّة جادة ممن يكتبون باللغة العربيَّة، من المحدَثين؛ اللهم إلا النزر اليسير.
فإذا عرفنا مثلا أن موقِظ الشرق، السيد جمال الدين الأفغاني، قد مرَّ بالماسونية، وبسط تجربته لتلميذه محمد باشا المخزومي في خاطراته، وكذلك مرَّ بها الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري (وفخرت وازدانت به الماسونية؛ بحسب مؤرخيها جرجي زيدان وشاهين مكاريوس)، في نفس الوقت الذي شغل فيه خديوي مصر، محمد توفيق باشا، منصب الرئيس الشرفي لمحفل الشرق الأعظم، وهو ما تزامن مع انخراط سلاطين حيدر أباد الدكن (الدولة الآصفية) ووزرائهم (سلار جنك) في سلك الماسونيَّة في شبه القارة الهندية، حتى خُصِّصت غرفة كاملة في متحف الأسرة الأخيرة للأوسمة والأنواط الماسونية، وذلك جنبا إلى جنب مع تفشي الماسونيَّة بين وجوه الدولة في البلاط العثماني في الأستانة والبلاط القاجاري في طهران.. إذا عرفنا ذلك كله أمكننا أن نُدرك الماسونية الرمزية، منذ مطلع عصر التحديث؛ بوصفها شبكة ثقافية- سياسية- اقتصاديَّة نخبوية، تكوَّنت في ديار الإسلام لإدارة مصالح الوجود الكولونيالي، إدارة تُقلل من الاحتكاك العسكري بين القوى الأوروبيَّة المتنافِسة وبعضها من جهة، وبينها وبين السكان المسلمين من الجهة الأخرى.
لذا، فحين انضم وجوه الأمة في ديار الإسلام للماسونيَّة؛ فإنهم قد انضموا لها لاتخاذها منبرا للمواجهة "الناعمة"مع القوى الكولونياليَّة بآليات غربية،فظهرت أحزاب المعارضة من رحم المحافل الماسونية (في مرحلة لاحقة) لمواجهة الأنظمة السياسيَّة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية بنفس الآليات الغربيَّة.
جدير بالذكر، أن الأفغاني ومحمد عبده قد اكتشفا لاحقا أن المحافل الماسونية الغربيَّة محض مُنتديات للغو والمراء والجُبن؛ فتركاها إلى غير رجعة، وإن حملا الأداة في جعبتهما (ظنّا في فعاليتها)، حتى أسسا محفلا أهليّا كان هو البذرة الحقيقيَّة للسياسة الحزبية كما نعرفها اليوم في ديار الإسلام. إذ تمحورت وظيفة هذا المحفل في مراقبة عمل الوزارات المختلفة، وتوجيهها لمراعاة العدل بين رعاياها المصريين والأجانب في ظل نظام توحَّشت فيه الامتيازات الأجنبيَّة.
كذا، إذا عرفنا أنه من المسلمات التاريخية أن الصهيونية لم تشرع باختراق
الشبكة الماسونية في ديار الإسلام إلا في العقد الأخير من القرن التاسع عشر (وتحديدا في قلب الدولة العثمانية)، ولم يبلغ التغلغُّل ذروته (في سائر الأنحاء) إلا أواخر ثلاثينيات ومطلع أربعينيات القرن العشرين؛ فإن هذا مما يجعل الماسونية تخرج من نطاق "المؤامرة السريَّة" أو الخفيَّة إلى نطاق شبكة العلاقات "العلنيَّة"، التي أسهمت بسرعة هائلة في علمنة تصورات الطبقة الحاكمة (منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر) على امتداد ما يُسمى بالعالم الإسلامي. فقد كانت آلية استعملتها القوى الكولونيالية بفعالية لخدمة أغراضها الاستراتيجية، وإلهاء النخب الحاكمة بـ"الحوار"مع عدوها، قبل أن تتغيَّر صورة الإلهاء في الجيل التالي إلى "المفاوضات" و"الصراع الحزبي"بين الأحزاب/ المحافل المختلفة، والمعبرة (بصورةٍ أو أخرى) عن مصالح هذه الدولة أو تلك من الدول الأوربيَّة.
وإذا كان المسلمون من حكام الجيل الأول قد ظنوا بالماسونية القدرة على تثبيت مُلكهم سِلما، وكسب ود القوى المهيمنة للأوروبيين في ذات الوقت؛ فإن المحافل كانت تُعيد تشكيل وجداناتهم ورؤيتهم لأنفسهم وللعالم، تمهيدا لبروز النعرات القومية والأحزاب السياسية الحديثة، والتي سمحت بـ"فضلها" القوى الكولونيالية لشعوب المسلمين في أنحاء الأرض؛ بـ"استقلالٍ" شكلي يمتطيه "بطل قومي" يقود حزبا قوميّا تأسس تحت رعاية القوى الكولونيالية وبدعم منها.. استقلال قومي/ قُطري يحفظ تشظي الإمبراطوريات المسلمة (المغوليَّة- الهنديَّة، والقاجارية- الفارسيَّة، والعثمانيَّة-التركيَّة)، التي فككها النظام الكولونيالي؛ ويحتفظ بهذه الشظايا في فلك "السيد" الأبيض، خصوصا من خلال الارتباطات الثقافية والسياسية والاقتصادية التي غرستها الماسونيَّة.
وربما كانت رحلة الأفغاني مع الماسونية من أهم التجارب الكاشفة
لطبيعة تلك المحافل ودورها وآثارها. فقد نُفي الأفغاني من مصر بعد تسع سنوات من الإقامة الدائمة، وذلك قبل الاحتلال البريطاني مباشرة.. نُفي لأن الخديوي توفيق لم يكن مُستعدا للالتزام بالإصلاحات التي وعده بها، وخاف أن يؤلب عليه الناس، ونُفي أيضا بضغطٍ بريطاني خوفا من نفوذه وقدرته على تعبئة الجماهير ضد الاحتلال.. نُفي حتى يتيسَّر الاجتياح البريطاني (1882م) على جثث تلاميذه.. نُفي وكان المنفى هو حيدر أباد الدكن، حاضرة الآصفيين أصحاب القدم الماسونية الراسخة.. نُفي من حضرة ماسوني إلى حاضرة ماسوني آخر.
وفي هذا النفي نفسه تتجلى الماسونية كشبكة محكمة لخدمة القوى الكولونيالية، وإن كان بعض المنتمين إليها قد توهم العكس، ومنهم الأفغاني نفسه بادئ الأمر. ولاحظ أن الأفغاني ومحمد عبده كانا قد تركا الماسونية الأوروبية قبل هذا النفي، أي خرجا على خط "النظام العالمي" الذي ارتضته جمهرة النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية للمسلمين. وكان آخر مراحل نفي جمال الدين هو إبعاده إلى الأستانة؛ حيث الهيمنة الكاملة لأبي الهدى الصيادي (شيخ الإسلام!)، أحد أقوى الماسون في ديار الإسلام بسيطرته على البادي شاه: السلطان العثماني. وقد بلغت من قوة هذا الصيادي أن الأفغاني والكواكبي والنديم كانوا "سجناءه" في الأستانة في نفس الوقت، قبل أن يتخلَّص منهم الواحد تلو الآخر؛ وهذا حديث لا يتسع المقام لبسطه.