(1)
مررت بأيام عصيبة ومؤلمة، شعرت خلالها أن قطيعاً من الفيلة يدوس جسدي ولا يكتفي، فيغرس الألم في أعماق روحي. تناولت خلال هذه الأيام كميات عشوائية من المسكنات والأدوية، حتى صارت المرارة والحموضة بديلاً كريهاً ألعن من المرض..
شعرت خلال تلك الأيام بأن الجسد المنهك يعلن تسليمه المذعن لحكم الشيخوخة، وأن الذاكرة تعلن تخليها عن دعم التفكير، فقد فشلت في التعرف على أصل الهاجس الذي تسلط عليّ (نوماً وصحواً) خلال تلك الوعكة، حيث كنت أشاهد أفراد عائلة متشاحنة فوجئوا باندلاع حريق في بيتهم الكبير متعدد الطوابق، وعندما هرعوا للهروب وجدوا كل الأبواب والمنافذ مغلقة بإحكام، ولا يوجد مسار للهروب غير الدرج الصاعد للطبقات الأعلى. وكانت النيران تطاردهم من طابق إلى آخر حتى وصلوا إلى الطابق الأخير، وكان مغلقاً هو الآخر باستثناء نافذة وحيدة يمكنهم من خلالها مشاهدة الحريق وردود فعل الناس على الحريق المستعر.
(2)
بعد أن فشلت في تذكر الأصل الأدبي لهذا الكابوس، تلقيت خبر رحيل الفنانة محسنة توفيق، وتذكرت دور "مريم" الذي قامت به في فيلم "الزمار"، ثم تذكرت المخرج عاطف الطيب، ثم الشاعر عبد الرحيم منصور الذي كتب الفيلم بمشاركة لاحقة لرفيق الصبان، ثم أخذتني التداعيات إلى "تينيسي ويليامز" الذي كان منصور يتماهى معه باعتباره طريداً معذباً من أبناء الجنوب، وحاول من خلال "الزمار" أن يستلهم أجواء مسرحية ويليامز الشهيرة "هبوط اورفيوس"، لكنه ذهب إلى أبعد من ذلك واستلهم "معركة الملائكة"، بل واستلهم عذاباته وعذابات ويليامز كلها، وعذابات الجنوب وعذابات الأوطان التي تحترق ولا يملك سكانها إلا مشاهدتها وهي تحترق، بينما هم عالقون في قلب الحريق.
(3)
كابوس المحاصرين في البيت المحترق يذكرني بجملة حوار في مسرحية ويليامز المغبونة "قطار الحليب لم يعد يتوقف هنا"، وهي جملة لا ترتبط بوجود أي حريق واقعي في الأحداث، لكن داخل الشخصية، إذ يقول فيها:
"نحن جميعاً نعيش في بيت تلتهمه النيران، ليست لدينا وسيلة للاتصال بإدارة الإطفاء، ولا أي طريقة للخروج.. توجد فقط نافذة في الطابق العلوي يمكن النظر من خلالها للنار التي تحرق بيتنا المحاصرين فيه".
(4)
المعنى قريب والصورة تكاد تكون متطابقة، ولا أعرف هل هذه الجملة هي أصل الهاجس الذي سيطر على عقلي أم لا؟ لكن ما علاقة المرض بالبيت، وبالنار، وبالزمار، وبعذابات النوع الطريد من الناس؟
الإجابة ليست مهمة، المهم هو السؤال؛ لأنه الحياة نفسها.. لأنه الإنسان الطريد، وهذا ما ينشده عبد الرحيم منصور شاكياً وشادياً: مر السؤال ع اللي مالوش ع السكة آخر/ من مصغري لمكبري مسافر/ بغوى مشاوير الهوى والدنيا/ والقطر واخدك لفين؟/ القطر واخدني بلا محطة/ وآه يابا عليا، لا دار.. لا مرسى ولا صبية/ وآديني ماشي في رحلة الشقا والرزق والترحال/ كأني سؤال..
أما ويليامز فيتنكر للشكوى قائلاً بكبرياء عنيد: الحياة نفسها سؤال بلا إجابة، لهذا يجب أن نبقى متمسكين بكرامة وأهمية السؤال..
هذا يعني أن السؤال نفي للوصول.. نفي لليقين، لكنه "الرحلة".. رحلة البحث بإرادة عن ذلك اليقين، بكل ما يرافق الرحلة من ألم ومن عذاب ومن مطاردة، ومن مواجع الدهم الأعمى تحت أقدام قطعان الفيلة التي تدوسنا، (ربما) من غير تعمد العنف والإيذاء؛ لأن الأرجح في بلدان الخوف أن ذلك الدهم (الشعبي) يحدث بسبب الفزع ومحاولة الهرب من خطر يجعل الفيلة نفسها، من ذلك "النوع الطريد".
(5)
"النوع الطريد" مصطلح عن الهاربين الهائمين المطَارَدين، الذين اختاروا الترحال رفضا للخنوع، ورفضا للتسليم بسطوة التقاليد الراكدة والقمع السائد، وقد استخدمه المخرج سيدني لوميت عنوانا لفيلم مستوحى من مسرحية "معركة الملائكة" لويليامز، وهي الأصل الذي اختاره منصور كقناع يحكي من خلالها وجعه الاغترابي وسيرة ترحاله في فيلم "الزمار".
وفي هذا المقال لا أتمسك بفكرة محورية، ولا أقف في محطة قضية معنونة، بل أتبع خطى الترحال، وأستسلم للتداعي الحر حسبما تأخذني غريزة الكتابة، وهو الأسلوب الذي كان الشاعر الفلسطيني الحبيب سميح القاسم (رحمة الله عليه) يهفو إليه ويسميه "سربية".
(6)
في حديثي عن دهم الفيلة لأجساد المطارَدين قلت "ربما"، وأنا أرتاح لهذه الكلمة، فهي خالية من عنجهية اليقين الذي عشنا به وعليه كثيراً لكنه لم يتحقق (إلا في الموت)، كما أنها (ربما) الكلمة الأنسب لرفقة الأمل وللحديث عن المستقبل، فلا يليق أن نستخدم كلمة "ربما" في ماضٍ وقعت وقائعه، إلا إذا كنا مقيدين، مجهلين، عاجزين عن معرفة ما حدث لنا وبنا، لكن الكلمة نفسها (ربما) تفتح أبواب الأمل في حديثنا عن الغد، فلربما يكون أجمل وأعدل، لكن: أي نصر يمكن أن تحصل عليه في الغد (أو تشعر به) قطة تعيش على سطح من صفيح ملتهب؟
(7)
يعيدني سؤال ويليامز إلى مشهد النار في البيت المحترق، ولا تنسوا أن بيت تعني "هوم"، و"هوم" تعني "وطن". وحديثاً قال ذئب من ذئاب الميكافيلية السياسية: إذا كان وطنك يتعرض لحريق، فإن أغراضه تصبح ملكاً لمن ينتشلها من النار، وهكذا شرعت الفوضى الخلاقة لنهب الأوطان وامتلاك الناهبين لما ليس لهم؛ بحجة أنهم ساعدوا في الإنقاذ!
(8)
في أول مشهد من فيلم "الزمار"، تخرج مريم من فرجة باب قديم وسط الظلام، وتتحرك بخفة كفراشة جنوبية حزينة، ترنو بنظرات غامضة إلى أضواء ملونة لحفل خامد انصرف ضيوفه في ليل الصعيد. في الخلفية موال حزين، وفجأة تدوي صفعة قبيحة كطلقة رصاص ترافقها زقزقة عصافير. وقد ظللت لسنوات لا أفهم مغزى الربط بين الصوتين منذ شاهدت الفيلم في عرضه السينمائي الأول والوحيد في خريف 1985، في حفل صباحي لم يحضره غير بضعة نقاد في مهرجان القاهرة السينمائي، حتى قرأت مذكرات ويليامز وحديثه عن مسرحيته "ليست البلابل موضوعنا"، التي كتبها مستلهما حادث احتراق عدد من السجناء أحياء، نتيجة حبسهم في غرفة مغلقة عقاباً على تمردهم، وهي حادثة تعيد للأذهان موت 37 سجينا مصرياً (في صيف 2013) داخل سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل.
بعد قراءتي لاعترافات ويليامز، فهمت أن المشهد الذي أدته
محسنة توفيق ببراعة غامضة لا ينتمي إلى عذابات قطة تكتوي فقط بالصفيح الساخن، لكنه ينتمي إلى مشاهد الجحيم الصريح التي استولت كهاجس متسلط على تفكير ويليامز، فحاول مراراً وتكراراً أن يعبر عنها بصور مختلفة، ليخبرنا بقصص مختلفة ورمزيات متنوعة أن الجنوب هو الجحيم، وأن الوطن هو المنزل المحترق بناسه المحاصرين. وكما غامر أورفيوس بالهبوط إلى الجحيم لإنقاذ زوجته الحبيبة، فإن هناك من يقتحم النيران بجسده لأنه لا يتحمل الفرجة على وطنه وهو يحترق، ولا يقبل المشاركة في سلب ونهب غنائم البلاد بمبرر الإنقاذ.
(9)
لقد كان عبد الرحيم منصور واحدا من المطاردين، الراقصين على الحصى، الذاهبين باختيارهم إلى الجحيم، المطالبين بمواجهة العسس في المدينة، والساعين لاستعادة الأحلام المغدورة. وبينما عاش منصور 40 عاما في الجحيم، عاشت محسنة توفيق ضعفيها. فلم ترض بمصير يوريدس التي غدر بها ثعبان مأجور وسلبها الحياة، لكنها اختارت أن تكون "أورفيوس"، الباحث عن طريقة لإعادة حبيبته إلى الحياة، لذلك ارتبطت محسنة باسم "بهية".. الفقيرة الحرة التي أخلصت لحبيبها البطل الشعبي ياسين، وانحازت للناس ضد القتلة الطغاة أعداء الحياة، لذلك (ولا أقول ربما) دشنت مشوارها الفني بدخول المعتقل، وعاشت قريبة من جحيم الناس تدفع ثمن مواقفها وانحيازاتها. أما "ربما" فأقولها عن المستقبل الذي يطاردني وأطارده ويدعوني للعودة إلى الجحيم، وربما يكون الأوان قد حان، فدائماً هناك وقت للفرار من الحصار، حتى وإن لم يكن هناك مكان للذهاب إليه.. حتى لو كان المقصد بيتا يحترق..
فربما يفلح أورفيوس هذه المرة في نزوله إلى الجحيم.
[email protected]