القول بوقوع حرب بين أمريكا وإيران، أو عدم وقوعها، ليس سوى نوع من التنجيم. فحدث بهذا الحجم، وما ينطوي عليه من مخاطر، يجعله خارج إمكانيات التنبؤ لخزانات الفكر بأدواتها العادية. فالمعطيات في هذه الحالة لا تكون ثابتة، وتتبدل بسرعة تجعل من الصعب على غير صناع القرار في الدولتين المعنيتين مباشرة بالحدث معرفتها.
على سبيل المثال، لا أحد يعرف ماذا يدور في قنوات الاتصال الخلفية، ومن المؤكد أن هناك أطرافا بدأت بالتوسط بين الطرفين، وقد يتم الوصول إلى نقطة تلاق؛ نتيجة حسابات الأطراف المعنية وتقييمها للمخاطر المحتملة، والتراجع عن الحرب. وما يؤيد مثل هذه الفرضية أن الحرب غالبا ما تكون الورقة الأخيرة في حسابات صناع القرار المعقّدة؛ نظرا لتداعياتها الاقتصادية والسياسية، والنتائج غير المقصودة التي تتأتى عنها وتفاجئ صناع القرار.
لكن، ثمّة عوامل من شأنها ترجيح كفة الحرب على التفاوض والتهدئة، منها: طريقة إدارة مرحلة الضغط والتفاوض، أو مرحلة حوار القوّة واستعراضاتها، وهي المرحلة التي على أساس نتائجها يتم تقرير ما إذا كانت الأمور ستذهب صوب الحرب أو التهدئة. وهي مرحلة في الغالب تكون قصيرة، ويقع صانع القرار فيها تحت ضغوطات مكثّفة تصدرها البيئتان الداخلية والخارجية.
والواضح من خلال تصرفات واشنطن وطهران؛ أن الطرفين يقودان هذه المرحلة باندفاع كبير، وبقليل من الحذر والتروي. ويرى عدد من المحللين الغربيين، أن ترامب في الأزمة مع
إيران يشبه رئيسا يدوس على دواسة وقود السيارة، وليس على مكبحها، فيفاقم المخاطر وتتعاظم احتمالات الانزلاق إلى حرب. وتعتبر سوزان مالوني، نائبة مدير برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز، أن هدف ترامب الدفع بالقيادة الإيرانية إلى الحافة. لكن إلى حافة ماذا تحديدا؟
في المقابل، يبدو أن إيران أيضا تقوم بحرق المراحل للوصول إلى الحرب؛ من خلال بعض السلوكيات المتهوّرة التي قام بها وكلاؤها ضد مصالح إماراتية وسعودية، وهو ما اعترفت به إحدى الصحف الناطقة باسم المصالح الإيرانية في المنطقة، عندما تساءلت عما إذا كانت الرسائل التي أودعتها إيران في البريد الإماراتي والسعودي قد وصلت لأمريكا!
العامل الثاني المرجح لكفة الحرب، تقديرات الطرفين للمخاطر، حيث تؤدي التفديرات دورا مهما في الذهاب للحرب، وما إذا كانت، في نظر أطرافها المباشرين فرصة أو خطرا. إيران ذكرت أن الوجود الأمريكي في
الخليج فرصة، بمعنى أنه سيجعل كفة إيران هي الرابحة في الحرب إذا حصلت، أو تضطر أمريكا إلى التراجع عن تهديداتها لأن جنودها يقعون تحت عين السلاح الإيراني.
لا شك في أن البعد الدعائي ومحاولة تطمين الداخل متضمنان بكثافة في هذا الخطاب الإيراني، لكن قد يكون فعلا هناك تيار يغلب هذا الرأي داخل المؤسسات الإيرانية. كما أن هذا الخطاب قد يقوي التيار المتطرّف في دوائر صنع القرار الأمريكي، الذي يرى أن إيران منهكة ومستنزفة، وأن ضربها في الوقت الراهن فرصة جيدة.
أما العامل الثالث، فهو الانهيار الدراماتيكي الذي قد يحصل نتيجة خطأ صغير أو تقدير متسرع لقائد ميداني، حتى لو كانت خطط القيادات المركزية مخالفة لذلك. وكما كتب "إي جي بي تايلور"، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914: "لم يكن هناك أي تصميم واع يدعو لاندلاع حرب"، فقد أساء الساسة التقدير، وأصبحوا سجناء لسلاحهم الخاص.
ولعلّ هذا العامل هو أخطر العوامل على الإطلاق، فكثيرا ما تنزلق الأطراف إلى الحرب مباشرة؛ وهي تعتقد أنها ما زالت في طور ممارسة الضغوط أو التصدي لها. وبعد انطلاق الرصاصة الأولى، يجد الأطراف المعنيين أنهم تورطوا في
الصراع وانخرطوا في أتونه، وأنهم يجب أن يكونوا كفؤا لهذه المرحلة، عندئذ يبدأ نمط من التقديرات والحسابات بالسيطرة على أذهانهم؛ من نوع كيف يمكن كسر العدو في أقل وقت، ثم أي أدوات قادرة على تحقيق هذا الهدف، وما طبيعة وكم الأهداف التي يجب تدميرها للخصم ليعلن هزيمته ويقبل بالشروط المفروضة.
ثمة من يرى أن الحرب بدأت فعلا منذ حادثة تخريب ناقلات النفط قبالة سواحل الإمارات (باتريك كوبرن، صحيفة "ميدل إيست آي" البريطانية). هذا يعني أن وقت التوسط أو التراجع عن الحرب قد فات أوانه. أما الإجراءات التالية، فهي ليست أكثر من إجراءات يوم حرب عادية، فهل يعني ذلك أننا تجاوزنا مرحلة الحديث عن الحرب إلى البدء بتوقع نتائجها؟