الدَرْوَشَة مصدر الفعل درْوَشَ، ويعني عَمِلَ عَمَلَ الدراويش وصار على منوالهم أو تشبَّه بهم في أفعالهم ولباسهم. والدرويش لُغة هو الزاهد المتعبِّد، وهو في اصطلاح الصوفيَّة العابِد الجوَّال. وإذا كان الرجل درويشا في عيشه فقد تدروَش؛ أي صار فقيرا يعيش عيشة متواضعة.
وإذا كان الأصل في الدَرْوَشة (لغة واصطلاحا) هو
الزهد/ العمل؛ فقد غَلَبَ معنى التشبُّه الأجوف (بالزهَّاد) خصوصا في القرنين الأخيرين، لا تحت تأثير التحديث فحسب؛ وإنما لتوصيف ظاهرة الانفصال شبه الكامل لهذا التشبُّه والتقليد الذي يخلو من كل حقيقة من حقائق
التصوف، إذ صارت الدروشة ظاهرا بغير باطن، بل ظاهرا مُضلِّلا لا يشي بخير باطِن.
أما المكابدة، فهي مصدر الفعل كَابَدَ، ويعني تحمَّل مشاق الشيء وصِعابه وشدَّته، ومنها قولهم: لا يعرِف الشوق إلا من يُكابِدهُ. يروي ابن كثير في تأويل قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في كبَد"؛ أن سعيدا بن جبير قال: "في شدة وطلب معيشة، وقال عكرمة: في شدة وطول، وقال قتادة: في مشقة". كذا روى ابن كثير عن جمعٍ من الصحابة والتابعين؛ أن هذا الكبَد هو كذلك انتصاب قامة الإنسان واستقامة بُنيانه. ويبدو أن المعنيين مُتقاربين ومتقاطعين، فإن الاحتفاظ بقامةٍ مُنتصبة لا تنحني إلا لله مُكابدة عظيمة، بل هي أعظم المكابدات بإطلاق.
لهذا، فإن أهم ما في التجربة الروحية (أو التصوف)، وهدفها الأسمى بإطلاق؛ هو الباطن لا الظاهر. المكابدة لا الدروشة (بالمعنى المتأخِّر)؛ أن تسوق نفسك سوقا إلى الله.. أن تركبها إليه؛ فلا تركبك هي إلى شهواتها، أن تلجمها بحكم الله وتُعبِّدها لأمره؛ فلا تنساق لأهوائها وضعفها وإخلادها إلى الأرض، ويغلبك فضولها والتفاتها.
إن المسلم الذي يُكابِدُ نفسه للتحقُّق ببعض هذه الحال توفيقا، من حين لآخر؛ لا يرتضي أبدا العبودية لأحد سوى الله،و لا يرتضي أن يركبه عبدٌ بعد، إذ لم يرتض أن تركبه نفسه الأمّارة بالسوء! إن المسلم الذي يُكابِدُ هذه الحال لا يُعيد فحسب تشكيل وجدانه وهواه، بل يُعيدُ بنفسه كذلك تشكيل واقعه الاجتماعي والسياسي على مراد الله. وفي هذا يختلف الإسلام عن كل ما عداه من مناهج البشر (كما يختلِف المكابِد الحقيقي عن الدرويش المتشبِّه بالزُهَّاد)؛ إذ يبدأ من قلب الإنسان وضميره لينعكِس على واقعه.
إن إخلاص العبودية لله يصنعُ واقعا جديدا بالكليَّة؛ واقعا لم يُنظِّر له المفكرون ولم يُخطِّط له المخطِّطون ولا دنَّسهُ السياسيون المحترفون، واقعا شديد الحيوية، مصدره الوحيد هو إخلاص مسعى المؤمنين للاستقامة على أمره تعالى، دون انشغال القلب بأية تفاصيل أو ثمار دنيوية برانية. فإن انحصر أثر هذا المسعى في ذات الإنسان، ولم يمتد إلى مجتمعه؛ فذلكَ راجِعٌ لأمرينِ لا ثالثَ لهما: إما أن الفرد "المسلم" يُرائي الناس بسعيه، ولم يتحقق بتمام إخلاص القلب والوجه والعمل لله، وإما أن المجتمع المعيَّن لم يحو بعد عددا من السالكين المخلصين يكفي، في علم الله؛ ليُبدِّل به المولى سبحانه حالهم من الضلال إلى الهُدى، ويُعين هؤلاء السالكين على حمل المجتمع المثقَل والعروج به إلى العليم الخبير.
إن قلب المسلم لا ينشغل بالإجراءات والنتائج البرانية، وتحتل عنده الأولوية، حتى على نفسه التي بين جنبيه؛ إلا حين تُفلِس روحه وتنفصِمُ عُرى إسلامه، وينتكس إلى الجاهلية. ساعتها تُمسي الإصلاحات البرانية والإجراءات الدنيوية طريقه إلى "الإصلاح"؛ إصلاح متوهَّم للعالم الذي أفسدته النفوس الخرِبة. لكن الله لا يصلحُ عملَ المفسدين، ولا يُصلِح باطِن من نسي قلبه وانصرف كُليَّة إلى ظاهر أمره!
إن الهدف الأهم للحياة الروحيَّة في الإسلام هو وَصلُ النفحات الربانية التي تتنزَّل على العبد المكابِد بالحياة اليومية؛ بمعنى أن تصير حاديا للوجدان ومُرشِدا للسلوك.. أن تنعكِس على حياتك اليومية، كما كان صدورها أثرا لمكابدتك نفسك وشهواتك في سبيله سبحانه.. أن تصير معونة ومددا وتقويما للحياة حتى تستقيم على مراد الله، لا محض عباراتٍ بليغةٍ ومعانٍ رائقة نُعجَبُ بها لثوانٍ معدودات، ثم ننصرفُ عنها إلى حياةٍ نحاربُ فيها اللهَ ورسولهُ، بوعيٍ أو بغيرِ وعي.
فإذا تأثرت بنفحةٍ من النفحاتِ التي منَّ الله بها على عبدٍ من عباده؛ فهو قد أدَّي واجب البلاغ، إلى حدٍ ما؛ وعندها يبدأ دورك: أن تُكابِد هواك وشهواتك لتستقيم بما علَّمك الله على مراده.. أن تنتقِل من التأثُّر (الدروشة إلى الاستجابة) المكابدة حتى لا تكون ممن أضلَّه الله على علم. ستنجح مرة وتفشل مرات، كما يحدُث لكل بني الإنسان ملايين المرات يوميا؛ لكن المهم ألا تكُف عن المحاولة. ذلك أن المحاولة المستمرة والمخلصة، للاستقامة على أمرِ الله؛ هي عين العبادة وعين التكليف وعين الإيمان. وكلما زاد إخلاصك في المحاولة، بغض النظر عن النتيجة؛ زادت قابليتك لتوسِعَةِ نطاق مكابداتك، وبدا التوفيق في سعيك، لتتعدَّى مكابدتك ذاتك إلى مكابدتك ذاتك وأهلك مُجتمعين. فتصير ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بجنانه لا بلسانه فحسب.. تصير مفتاحا للخير بمحاربتك نفسك حربا شعواء لتُذعِن لما أمر الله به وتمتنِع عما نهى عنه.
لكن احذر؛ فها هنا موطنٌ خطير من مواطنِ تلبيس أبالسة الإنس والجن، والأدعياء الذين يرتزقون بالتصوف. سيقولون لك إن تزكية النفس تعني الانشغال بها عما سواها، وهي قولة حقٍ يُرادُ بها باطِل. فالانشغال بالنفس لا يعني الانسحاب الرهباني من المجتمع الذي تحملُ أمانته أمام الله بوصفك أحد أفراده، بل يعني ألا تنه عن خُلُقٍ وتأتي مثله، فهو عار عظيم كما يقول المتنبي. لتبقى الأولوية الأهم بإطلاق: نفسك التي بين جنبيك، فهي أولى الناس؛ أولى حتى ممن تعول، وأولى من مجتمعك المحيط، لكنها لا تُغني عنهم إلا أن يشاء الله شيئا.