تم اغتيال صالح بن يوسف يوم 12 آب/ أغسطس 1961 في مدينة فرانكفورت الألمانية. منذ ذلك التاريخ وأسرته وأنصاره يتساءلون عمن قام بإطلاق النار عليه، ومن أمر بتصفيته جسديا. بعد تلاحق الأجيال ومرور كل هذا الوقت، أقيمت مؤخرا محكمة للنظر في هذا الملف الغامض والمثير للجدل وللشجون. فقبل أن تطوى صفحة
هيئة الحقيقة والكرامة برئاسة السيدة سهام بن سدرين، قررت إحالة هذا الملف على القضاء للكشف عن سر هذه الجريمة وتحديد المسؤوليات. أما الشاكي فهو حفيد القتيل. ومنذ أن أنشئت المحكمة للنظر في أوراق القضية قبل ايام قليلة، حتى انقسم الرأي العام، وشن المخلصون للرئيس
بورقيبة حملة ضارية ضد كل من وقف وراء
هذه المحاكمة؛ التي اعتبروها خطأ فادحا في حق مؤسس الدولة الوطنية في
تونس.
لا يكاد يمر أسبوع أو شهر حتى تشهد البلاد حدثا مثيرا للجدل؛ يدفع بالتونسيين إلى الانقسام والصراع فترة من الزمن، قبل أن يصدمهم حدث جديد ينسيهم في ذلك الأمر ويدخلهم في خلاف جديد. هذا حال التونسيين منذ اندلاع الثورة وارتفاع سقف الحريات، حتى أصبح كل شيء قابل للمراجعة والمناقشة والتساؤل. فملف صالح بن يوسف بقي في الأدراج طيلة السنوات التي خلت، إذ كانت هناك سلطة لا تسمح بإخراجه وفتحه من جديد. أما اليوم، فقد تغيرت الأوضاع بنسبة جذرية، وأصبح بالإمكان استجواب بعض الأشخاص الذين لا يزالون على قيد الحياة ولهم علاقة ما بتلك الحادثة. وهو دليل آخر على أهمية التغيرات التي تشهدها تونس منذ أن 14 كانون الثاني/ يناير 2011.
مع ذلك، فإن استحضار الذاكرة وفتح جروح الماضي ليس أمرا هينا، وقد تكون له مضاعفات خطيرة على المناخ العام، وعلى وحدة المجتمع. هذا ما يحذر منه البعض. فالمحكمة قد تتعمق في خلفيات الملف، وقد تصل إلى تحديد هوية الآمر بتنفيذ الاغتيال، وتعتبر أن الرئيس بورقيبة هو الذي أمر بالتخلص من غريمه صالح بن يوسف. هذا الاحتمال وارد، ولكن ماذا سيترتب عنه؟
بدأ أنصار الحبيب بورقيبة يروجون للجزء الآخر من الحكاية. فهم يستندون على رسائل سبق لبن يوسف توجيهها لبعض أنصاره دعاهم فيها إلى قتل بورقيبة باعتباره "خائنا للقضية الوطنية"، و"قبل التنازل عن الاستقلال التام لتونس". ويقال إن هذه الرسائل كانت موجودة ضمن ملف سري بوزارة الداخلية، وقام الرئيس السابق زين العابدين بن علي بتسليمها إلى عائلة المرحوم بن يوسف. هذا يعني أن الصراع بين الرجلين حول السلطة قد بلغ أوجه، وأن بقاءهما معا أصبح مستحيلا في غياب وجود آليات ديمقراطية داخل الحزب والدولة. ومع وجود رأسين يتقاسمان التأثير على شقين داخل الحزب، أصبح كل منهما يفكر في القضاء على الآخر باستعمال لغة الرصاص، وليس عن طريق وسيلة سياسية أخرى. لهذا السبب بالذات، قال بورقيبة لأنصاره بعد أن بلغ النزع أوجه: "لا بد من قطع رأس الأفعى". وكان المقصود من ذلك الأمين العام للحزب الحر الدستوري. وقد وجد من فهم الرسالة، وقرر ضمن مجموعة إنجاز المهمة. بذلك عادت الطمأنينة لبورقيبة، وبارك العملية، وقام في أول مناسبة بمنح وسام لمن تولى التنفيذ.
عندما نعود إلى فترة الستينيات، لم يكن اللجوء إلى تصفية الخصوم السياسيين أمرا نادرا، خاصة إذا تعلق الأمر بالسيطرة على الحكم. ولم يشذ الحزب الدستوري وقادته عن هذا المناخ الذي كان رائجا في معظم البلاد العربية والعالم الثالث. وقد غذى ذلك المناخ الثوري الذي انتهجته أنظمة عديدة، حيث قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بدعم القطيعة بين بن يوسف وبورقيبة، فكان لذلك الأثر الحاسم في تغذية الصراع بين الزعيمين التونسيين، وتعميق الفجوة بين تونس ومصر. لهذا يقلب البورقيبيون الفرضية، ويقولون إنه لو حصل العكس، ونجح بن يوسف في تصفية بورقيبة، فكيف سيكون مستقبل تونس السياسي والثقافي؟
ماذا يفيد فتح هذا الملف الآن؟
تفيد المعطيات الواقعية أن أسرة الفقيد هي صاحبة الرغبة في إثارة هذه القضية، وهو حق من حقوقها لا يمكن الاعتراض عليه. إلى جانب، ذلك يؤكد المدافعون عن الملف بأن المسألة تعتبر جزءا لا يتجزأ من مسار العدالة الانتقالية التي شملت معظم القضايا الشائكة التي عرفها تاريخ البلاد، منذ الاستقلال إلى مرحلة ما بعد الثورة، وفرصة لإعادة كتابة التاريخ المعاصر لتونس و"تحريره من القراءة الرسمية التي سادت طيلة المرحلة السابقة". لكن ما كشفت عنه ردود الفعل أثبت أن الماضي لا يزال حاضرا وبقوة لدى أبناء الحزب الدستوري، وأن الفجوة بين الجناحين التاريخيين للحزب ما زالت عميقة، وقد تزداد عمقا بعد هذه المحاكمة رغم انهيار الحزب وتلاشيه. كما أن هذه المحاكمة التي ستطال شخص بورقيبة ستؤثر على صورته لدى الأجيال الجديدة، وإن كانت لن تقلل من أهميته التاريخية.
أما عن تداعيات المحاكمة على الأوضاع السياسية الراهنة، فالمخلصون لبورقيبة يعتقدون بأن حركة النهضة هي التي تقف وراء الأمر نظرا لصراعها السابق معه، ويتهمونها ضمن حملة واسعة (بمناسبة الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة) بكونها تريد استغلال السياق الراهن لتصفية الحساب مع مؤسس الدولة الوطنية. هكذا، تجد الحركة نفسها من جديد تحمل عبء صراع نشأ قبل ولادتها، ولم تستطع التخلص من تبعاته رغم محاولاتها "التطبيع" مع بورقيبة وميراثه السياسي والثقافي.
تعتبر هذه المحاكمة سياسية بامتياز، وهي الأولى من نوعها التي تستهدف مباشرة شخص الرئيس بورقيبة، وقد تحدث مزيدا من التصدع في ذاكرة التونسيين بعد قيام دولتهم الوطنية. إنها أشبه بفرضية إقدام حزب العدالة والتنمية في تركيا على الشروع في محاكمة كمال أتاتورك!