هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: الصليبية والجهاد ـ حرب الألف سنة بين العالم الإسلامي وعالم الشمال
الكاتب: ويليام بولك، ترجمة د. عامر شيخوني، مراجعة د. عامر يحي الفَرَجِي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، أيار/مايو 2019،
(582 صفحة من القطع الكبير).
إذا كان الإسلام مثل ثورة دينية كبيرة من خلال جعله للعرب دينا واحدا يدعو إلى الوحدانية، فإن الثورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي جاء بها الإسلام، تشكل الانتقال الحاسم في كل تاريخ العرب، من النظام الذي كان قائما على العصبية القبلية، حيث إن القبيلة وحدة سياسية قائمة بذاتها، لها دينها الخاص، ولها عصبيتها التي تتضمن التماسك بين أفرادها والاعتزاز بها بالانتساب إليها، والعصبية على هذا النحو هي مصدر القوة السياسية للقبيلة، إلى التخطي الجدلي التاريخي لهذه المجتمعات العربية التي لم يكن لها نزعة قومية شاملة، بحكم تفتتها من الناحية السياسية إلى وحدات سياسية قائمة بذاتها، حيث كانت القبائل المختلفة ممثلة لهذه الوحدات.
يقظة الشعور القومي العربي
وفضلا عن ذلك، فإن هذه الثورة السياسية تمثلت أيضا في يقظة الشعور القومي العربي، خصوصا أن الإسلام والعربية لغة وثقافة أديا دورا مهما في "تكوين مقومات القومية العربية بركيزة حضارية قوية جدا" هذا من جهة. ومن جهة أخرى كانت هذه الثورة السياسية تتمثل في المشروع السياسي والاجتماعي والثقافي الواضح، الذي كانت تحمله الدعوة المحمدية منذ بدايتها، وبخاصة فيما يتعلق، بالقضاء على دولتي الفرس والروم والاستيلاء على كنوزهما.
والمشروع السياسي للدولة المحمدية، يؤكد أن الوعي القومي العربي لمحمد في رسالته، والثورة العربية الإسلامية التي قام بها، حاضر، وأنه أسس وبنى حركة قومية عربية رفعت شأن العرب، وأنقذتهم من براثن التخلف، وعززت مكانتهم في إطار الصراع الدولي المحتدم آنذاك مع الامبراطوريات المجاورة، واحتلال موقع الريادة، في قيادة السياسة الدولية.
الإسلام الثوري
وبذلك غدا الإسلام حسب مفهوم ذلك الزمان ثوريا بالنسبة لمرحلة التشرذم القبلي، واستخدمه محمد في ثورته القومية العربية كعقيدة أيديولوجية وسياسية من أجل مواجهة ودرء أخطار ومطامح الأمم المجاورة الفارسية، والحبشية، والبيزنطية، التي كانت تهدد الجزيرة العربية ومركزها التجاري مكة، والطريق التجاري الذي يقود إلى البحر الأسود عبر فارس، وإلى سوريا وآسيا الصغرى، والطريق الذي كان يمر بالبحر الأحمر.
وككل ثورة دينية وسياسية كبرى، كان لا بد أن تسبقها الدعوة، ولقد اتخذت الدعوة المحمدية في البداية طابعا دينيا، الذي يتمثل في نشر العقيدة الإسلامية، ثم ما لبثت أن اكتسبت الطابع السياسي.
وبذلك أصبحت الدعوة المحمدية في آن واحد نشر الدين الإسلامي وتأسيس الدولة والمجتمع المديني على أساس عقيدة الإسلام.
يُبْهِرُكَ عنوان الكتاب: "الصليبية والجهاد ـ حرب الألف سنة بين العالم الإسلامي"، للكاتب والباحث وأستاذ الأدب العربي في جامعة هارفار وجامعة شيكاغو، ويليام روزبولك، الذي يقدم لنا في أحدث كتبه "الصليبية والجهاد"، المتكون من ستة أجزاء، وأربعين فصلا، والصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، رؤية مختلفة للعالم بنظرة باحث غربي، تغطي ألف عام من التفاعل بين ما يسميه "الشمال العالمي"، الذي أصبح منذ القرن الخامس عشر متقدما علميا وقويا عسكريا، و"الجنوب العالمي"، الذي كان متقدما ومتحضرا بشكل عام، وانحدر في ظلام التخلف والجهل والضعف والخضوع للقوى الإمبريالية الشمالية.
اتخذت الدعوة المحمدية في البداية طابعا دينيا، الذي يتمثل في نشر العقيدة الإسلامية، ثم ما لبثت أن اكتسبت الطابع السياسي.
لكن الباحث والقارىء للكتاب الضخم، لا يجد فيه ذلك البحث الأكاديمي المعمق الذي يتناول الحروب الصليبية وتداعياتها التاريخية، فالكتاب هو تجميع لعدة نصوص ومقالات كتبت في أوقات متباعدة، في محاولة منه أن يفهم لماذا ينشط "الإرهاب الإسلامي" في هذه الفترة الزمنية، علما أن الباحث يتحدث عن الشمال الإمبريالي بدلا عن الغرب، وربما فعل ذلك لكي يضم الصين واليابان وروسيا إلى الهجمة الاستعمارية الأوروبية التي اجتاحت شعوب الجنوب العالمي منذ القرن الخامس عشر من الفليبين وأنددونيسيا مارا بالبنغال والهند وباكستان وآسيا الوسطى وأفغانستان وإيران والعراق وسوريا وفلسطين ومصر وليبيا والجزائر والمغرب. وهو بذلك يضم شعوب عالم الجنوب بعضها مع بعض أيضا، في تجربة خضوعها للاستعمار والإمبريالية والاستغلال.
يقول الكاتب ويليام بولك في الفصل الثالث من الكتاب: "يعتقد المسلمون بأن شريعة الله وأوامره قد تم تنفيذها بنجاح في عصر محمد، ويعتبر المؤمنون أن قيادته للمجتمع المسلم الأصلي كانت عصرا ذهبيا تجلت فيه إرادة الله وطبعت أوامره بشكل حقيقي صحيح، كان من الممكن أن تُفضي وفاته سنة 632 إلى نهاية المجتمع الوليد ونهاية التعبير الأرضي عن إرادة الله، وفي الحقيقة كانت وفاته صدمة قوية لدرجة أن بعض أتباعه لم يصدقها" (ص 42 من الكتاب)..
تحول المجتمع المديني في عهد الرسول
إن تجاوز اللحظة التدشينية إلى ما سبقها في التاريخ العربي في مجال نشوء ونمو المجتمع المديني، يجعلنا نرى أن الثورة المحمدية بكل ما لهذه الكلمة من معنى دقيق، مارست استراتيجية قتالية ضد قريش من خلال ضرب مصالحها التجارية عبر الغزوات المنظمة التي قام بها الرسول، والتي كانت تهدف إلى اعتراض القوافل التجارية القرشية، من أجل الاستيلاء على مكة. ذلك أن فتح مكة لم يكن من الأحداث العادية التي كانت تجري في جزيرة العرب بين القبائل، بل كانت حدثا دوليا، فمكة تعد مركزا دينيا وتجاريا دوليا، والدعوة المحمدية لم تعد مجرد دعوة، بل أصبحت دولة.
لقد أصبحت الطرق التجارية الدولية مهددة في إحدى محطاتها الرئيسية، فكان من الطبيعي أن يأتي رد فعل الروم الذين تهمهم مكة كمحطة تجارية ضرورية.
هل نستطيع التوصل إلى تفسير منطقي لظهور الإسلام كرسالة أو ثورة متجاوزة كلا من اليهود والمسيحية؟ ولماذا العرب لم يتبنوا اليهودية أو النصرانية وهي في أيديهم؟ وما هي مقتضيات تقدم الإسلام في بيئة عربية حجازية، هل لأن الرومان قد تبنوا المسيحية دينا لدولتهم؟
إن النظام البطركي القبلي في المجتمع الجاهلي، الذي تهيمن فيه القبيلة باعتبارها الوحدة السياسية عند العرب في عصر ما قبل الإسلام، الذي كان الوعي السياسي فيه ضيقا ومحدودا، فضلا عن أن هذا المجتمع العربي البطركي كان مجتمعا مفتتا من الناحية السياسية، سبب التنافر بين القبائل المختلفة، التي يعود سببها في جزء رئيسي إلى طبيعة الشروط الاقتصادية والاجتماعية لحياة هذه القبائل (جدب الأرض، التنقل، قلة المرعى) الفاقدة لسلطة مركزية من نوع الدولة، التي تشكل العصبية مصدر قوتها السياسية، أصبح يتفطن إلى مطامع الروم والفرس في الجزيرة العربية، ويحس بأخطار وأطماع هذه الأمم الأجنبية، التي أصبحت تهددها.
تطور الشعور القومي عند العرب قبيل ظهور الإسلام، وتهيئهم لتحقيق نقلة نوعية في تاريخهم السياسي، هو الذي جعل الإسلام يؤدي دورا أساسيا في تكوين الدولة العربية الإسلامية
الإسلام والعصبية شكلا شرطين رئيسيين بالإضافة إلى عنصر الغنيمة في تأسيس الدولة العربية الإسلامية.
بقيت القبيلة حية في نفوس الناس بما أنها كانت ولا تزال خاصية أساسية من خصائص تكوين الدولة العربية في مستوييها الديني والقومي