عاشت حركة النهضة حدثا بارزا خلال الأيام الأخيرة؛ تمثل في صعود عدد واسع من نسائها خلال الانتخابات الداخلية التي أجرتها مؤخرا من أجل اختيار المرشحين لتشكيل قوائم الحركة التي ستشارك في التشريعيات القادمة. لقد نجحت العديد منهن في التفوق على كثير من الذكور؛ ومنهم من كان يتصدر المشهد طيلة المرحلة الماضية. ولم يقتصر ذلك على المناطق الساحلية بما في ذلك العاصمة، وإنما تمكنت النساء من تحقيق تقدم ملحوظ في الولايات الداخلية مثل الجنوب والشمال الغربي المعروفة بنزعتها المحافظة. ماذا حدث؟
عندما نشأت الحركة الإسلامية التونسية استجاب لها عدد واسع من الفتيات، وقد مثلت تلك الاستجابة مفاجأة غير سارة وصادمة وغير مفهومة من قبل الحداثيين وعموم النخبة التونسية. لم يتمكن هؤلاء من هضم وفهم الأسباب الحقيقية التي دفعت بجزء من التونسيات إلى الالتحاق بحركة محافظة تدعو إلى العودة بالمرأة إلى نمط تقليدي؛ تصور الكثيرون بأنه اندثر وانتهى بعد الإصلاحات العميقة التي أقدم عليها الرئيس بورقيبة وجماعته.
تمكنت النساء من تحقيق تقدم ملحوظ في الولايات الداخلية مثل الجنوب والشمال الغربي المعروفة بنزعتها المحافظة
في البداية، قبلت النساء بالأدوار الثانوية والجزئية التي حددتها قيادة الحركة في تلك المرحلة، وكانت أدورا مرتبطة بالأنوثة، مثل الزواج وفق المقاييس المحافظة التي وردت من الإخوان المسلمين المصريين والمشارقة، مع تثقيف ديني تقليدي، لكن بعد خروج
الإسلاميين التقدميين وما طرحوه من أفكار ثورية شملت موضوع المرأة، ومجمل التحولات التي حصلت في
صفوف الطلبة الإسلاميين الذين اختلطوا بالساحة الطلابية التي كان يهمين عليها اليسار، وبعد العلاقات الوثيقة التي ربطت حركة الاتجاه الإسلامي بشخص حسن الترابي وحركته السودانية، وبعد الثورة الإيرانية التي أطاحت بالعديد الصور النمطية للمرأة المسلمة.. حدثت بسبب ذلك كله تطورات سريعة وهامة داخل حركة النهضة غيرت من موقع النساء ومن أدوارهن داخل التنظيم.
عندما تسلم بن علي السلطة وأصبح بالإمكان إدارة نوع من التفاوض مع الإسلاميين؛ كان من بين المسائل التي طرحت على رئيس الحركة راشد الغنوشي الموقف من مجلة الأحوال الشخصية، التي كانت الحركة منذ نشأتها مناهضة لها واعتبرتها مناقضة في بعض أحكامها مع الشريعة. في تلك المرحلة بدأت الاعتبارات السياسية تدخل وتؤثر مباشرة على الأيديولوجيا، فجاءت صياغة الشيخ لجوابه متطورة نسبيا، وفتحت الباب أمام رؤية مغايرة لهذه المسألة المفصلية عند عموم الإسلاميين.
انطلقت سلسة من التحولات الهامة وأكثر عمقا، وهو ما دفع بالحركة نحو المشاركة الفعلية في إدارة المرحلة الانتقالية، جاءت مرحلة صياغة الدستور، فكانت المحصلة مزيدا من الانفتاح الفكري والسياسي على قضايا النساء
بعد الثورة، انطلقت سلسة من
التحولات الهامة وأكثر عمقا، وهو ما دفع بالحركة نحو المشاركة الفعلية في إدارة المرحلة الانتقالية، جاءت مرحلة صياغة الدستور، فكانت المحصلة مزيدا من الانفتاح الفكري والسياسي على قضايا النساء، خاصة في مسألة التنصيص على مبدأ المساواة بين الجنسين والتخلي عن مقولة التكامل بين المرأة والرجل. ثم تعددت التشريعات في البرلمان، كان آخرها قانون مناهضة العنف ضد المرأة الذي مثل خطوة ثورية داخل فكر الإسلاميين، حيث تم التصويت عليه بالإجماع. وقد دل على ذلك على أن الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين يمكنه أن يشكل مدخلا هاما لتطوير فكر الحركة الإسلامية، حتى وإن كان معظم هذه المبادرات تأتي من الجهات العلمانية، وقد يكون من بين دوافعها هو "إحراج" الإسلاميين والإسلاميات لمعرفة السقف الذي يمكنهم أن يتوقفوا عنده.
في ظل هذه الديناميكية الجديدة انطلقت نساء الحركة في مسار أزاح من أمامهن عوائق كثيرة، وجعلهن يختلفن في بعض المسائل مع الحرس القديم وحتى مع بعض توجهات المكتب التنفيذي، والكثير منهن أصبحن يطمحن إلى غزو المواقع القيادية الأكثر أهمية داخل التنظيم. ومما ساعدهن كثيرا على ذلك، القانون الانتخابي الذي يفرض التناصف الأفقي والعمودي على جميع الأحزاب، بما في ذلك حركة النهضة، مما فتح الطريق نحو تمكين العنصر النسائي من البروز و
خوض الانتخابات والدخول بقوة إلى البرلمان، كما جعلها تتحمل حقائب وزارية متقدمة في المجالين الاقتصادي والفني، وعدم الاكتفاء بالوظائف التقليدية التي كانت محصورة في المسؤوليات التربوية والاجتماعية.
تقديرات الواقع تدفع نحو القول بأن تصاعد دور النهضويات سيكون له تأثير ملحوظ على أوضاع الحركة، وعلى مدى تكيفها مع مقتضيات التحول السياسي والاجتماعي
رغم هذه التحولات الهامة داخل حركة النهضة، لا تزال بعض النسويات
التونسيات لا يثقن في نوايا الإسلاميين ويشككن فيها، مما جعل العلاقة بين الطرفين تبقى عدائية وصراعية. ويعود ذلك إلى عمق أزمة ثقة بين الطرفين، وهي أزمة متأثرة بالحسابات الأيديولوجية والسياسية. لكن تقديرات الواقع تدفع نحو القول بأن تصاعد دور النهضويات سيكون له تأثير ملحوظ على أوضاع الحركة، وعلى مدى تكيفها مع مقتضيات التحول السياسي والاجتماعي، المهم ألا يكون ذلك مرتبطا بحسابات تنظيمية وصراعات داخلية محكومة بالأجنحة التي تتحكم حاليا في موازين القوى داخل الحركة. كما يجب عدم إغفال الصلاحيات التي لا يزال يتمتع بها رئيس الحركة والمكتب التنفيذي الذي يديره، والتي تسمح لهما بإدخال تعديلات على ترتيب الفائزين والفائزات في الانتخابات المحلية الأخيرة، وفق مقتضيات تعطي الأولوية للرؤى والتقديرات السائدة حاليا داخل التنظيم. مع ذلك، يبقى المكسب الهام الذي حصل عليه التيار الإصلاحي خلال المؤتمر العاشر للنهضة، والذي فرض انتخاب المرشحين للبرلمان من قبل القواعد، مع تمكين القيادة من إدخال "اللمسات الضرورية" في آخر المطاف.
إن تطور الوعي النسائي داخل حركة النهضة هو تأكيد للخصوصية التونسية، وتفاعل إيجابي مع مطالب الحركة النسوية، وهو في النهاية يصب في صالح دعم حقوق المرأة، وتأكيد مساهمتها في عملية الانتقال الديمقراطي الذي لا يزال هشا على أكثر من صعيد.