هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
طفت من جديد فكرة "العصيان المدني" إلى السطح في مسيرات الحراك الجزائري المنادي بالتغيير الجذري لنظام الحكم، لكن هذا الأسلوب لا يلقى الإجماع بين الجزائريين الذين يخشى بعضهم استغلاله من السلطة لتبرير القمع.
خلال مسيرات الجمعة الأخيرة بالعاصمة، توعد متظاهرون النظام باللجوء إلى العصيان المدني في الفترة التي تعقب عيد الأضحى، وهو ما وثّقته العديد من الفيديوهات المنتشرة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن مبررات بعض المتظاهرين الذي يرفعون هذه الفكرة، عجز أسلوب التظاهر الأسبوعي عن دفع النظام إلى القبول بمطالب الحراك الشعبي، بدليل بقاء نفس الواجهة المدنية للحكم رغم الإلحاح على تغييرها.
ويُطالب الحراك الشعبي منذ استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 2 نيسان/ أبريل الماضي، برحيل من يسميهم "الباءات" والذين تبقى منهم رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح، والوزير الأول نور الدين بدوي، لكن ذلك لم يتحقق إلى اليوم.
ودفع هذا الوضع، إلى ارتفاع سقف المطالب وتشددها أحيانا، حتى بات جزء من المتظاهرين يطالبون برحيل رئيس أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح نفسه، باعتباره من يعرقل رحيل المسؤولين المغضوب عليهم، من وجهة نظرهم.
مخاطر العصيان المدني
ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يهدد فيها المتظاهرون بالعصيان المدني، فقد انتشرت الفكرة في الأسابيع الأولى للحراك على مواقع التواصل من أطراف مجهولة إلا أنها لقيت استجابة ضعيفة، بعد أن تصدى لها الكثيرون بالرفض.
وفور عودة الفكرة إلى الواجهة، سارع هواري عدي، أستاذ علم الاجتماع بالجامعات الفرنسية، في منشور له على فيسبوك، للتحذير من أنها "ستكون أحسن طريقة لتقسيم الحراك وإفشاله".
وقال عدي المعروف باختصاصه في العلاقة بين العسكري والسياسي في النظام الجزائري، إن "أصحاب الموقف الصلب داخل قيادة الأركان، لا ينتظرون إلا الفرصة السانحة للتدخل بعنف، مدّعين استرجاع سلطة الدولة، إذ يمكن للعصيان المدني أن يؤدي إلى شلل مؤسسات الدولة والضحية سيكون الشعب طبعا".
اقرأ أيضا: دعوات لعصيان مدني بالجزائر ورحيل رموز نظام بوتفليقة
وأبرز عدي أن العصيان المدني هو الفرصة التي يحلم بها الجناح الصلب داخل النظام، حيث سيُتيح له ادعاء أنه يحمي المواطنين من الأفعال السيئة للمشاغبين.
ونصح الباحث الحراك بأن يحتفظ بوتيرته الأسبوعية (الخروج مرتين في الأسبوع؛ الثلاثاء للطلبة والجمعة للجميع)، وأن يستمر العمل بصفة عادية باقي أيام الأسبوع، بل العمل أكثر من المعتاد لزيادة الإنتاجية في أماكن العمل.
وشبّه عدي الحراك السلمي بمثابة يد حديدية في قفاز من حرير، مشيرا إلى أن قيادة الأركان إذا لم تستجب لمطالب الحراك فلن تكون هناك انتخابات رئاسية.
ويعتقد الباحث أن الحراك في طريقه لأن يحقق الانتصار، في حين أن مشجعي قيادة الأركان يريدون افتعال اجتياح لأرضية الملعب كي تتوقف المباراة، وفق رأيه.
خلفيات تاريخية
ولا تنطلق المخاوف من "العصيان المدني" من الظروف الحالية، إذ توجد خلفيات تاريخية تعود في كل مرة عندما تُطرح الفكرة، أهمها الأحداث التي صاحبت اعتصام حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أيار/ مايو 1991 احتجاجا على قانون الانتخابات في ذلك الوقت.
وقال الباحث في الحركات الإسلامية، عدي فلاحي، إن المفكرين وعلماء الدين من خلال تواصله معهم يرفضون ويحذرون من إعادة استعمال هذا الأسلوب، لأن تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ كانت مريرة حينما نظّر السعيد مخلوفي (أحد قادة الجبهة) لهذه المسألة في كتيبه "العصيان المدني" وأدى ذلك إلى إراقة دماء الجزائريين.
وأوضح فلاحي في حديثه مع "عربي21"، أن نتائج تلك التجربة كانت مدمرة وأدت إلى استيلاء الجيش على السلطة ودخوله في حرب مع جماعة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التي تحول فصيل منها إلى جماعة مسلحة ثم إلى جماعات مسلحة.
ويخشى فلاحي من أن يتكرر نفس السيناريو اليوم، وبالتالي يخسر الحراك ما حققه من مكاسب، لأن الذهاب إلى العصيان المدني يؤدي بالضرورة إلى عصيان عسكري، ما قد يوقع البلاد في جحيم الإرهاب وبمخرجات أخرى أكثر دموية.
وأضاف المتحدث: "عن نفسي إذا خيرت بين الفوضى الخلاقة التي يخطط لها البعض، وبين حكم العسكر، فسأختار حكم العسكر مرغما وليس عن حب وقناعة لأن الفتنة أشد من القتل".
لكن المحامي والحقوقي عبد الغني بادي، يرى أن القياس على تجربة التسعينيات خاطئ، ويوضح أن العصيان المدني له عدة أشكال يمكن لبعضها أن تحقق نتائج لصالح الحراك الشعبي.
وأبرز بادي في حديثه مع "عربي21"، أن لا أحد يفكر في تجربة العصيان على طريقة "جبهة الإنقاذ" التي اعتمدت أسلوب "الاعتصام في الشارع" لأن ذلك قد يؤدي إلى انزلاقات خطيرة.
ويرى بادي أن الشكل المناسب يمكن أن يكون في التزام البيوت لأيام وغلق المحلات مع ترك الخدمة في حد أدنى، ما قد يدفع السلطة لمراجعة أمورها وتحقيق مطالب المتظاهرين.
وأضاف بادي أنه يمكن شل الكثير من القطاعات لمدة معينة من دون المساس بالحد الأدنى من الخدم خاصة في القطاعات الحساسة مثل الصحة حتى لا يتضرر المواطن.
"رد فعل عاطفي"
ومن منظور أكاديمي، أفاد أستاذ العلوم السياسية، رابح لونيسي، بأن فكرة العصيان المدني يجب وضعها في إطارها، فقد جاءت، حسبه، كرد فعل عاطفي على تشدد قائد الأركان في خطابه الأخير، خصوصا بعد الرفض الذي أبداه في إطلاق سجناء الرأي.
ولا يستبعد لونيسي في تصريحه لـ"عربي21"، أن يكون وراء هذه الدعوة أطراف من السلطة ذاتها لتحقيق هدفين وهما: دفع الحراك إلى التطرف من جهة، وإثارة خلافات بداخله حول فكرة العصيان المدني التي تبدو للكثيرين مبهمة وغير واضحة.
واستنادا إلى تجارب تاريخية في الجزائر وخارجها، يعتقد لونيسي، أن هذا الأسلوب لم يحن وقته بعد لأن الكثيرين لم يفهموا المقصود بالعصيان المدني، ويخشون من تحوله إلى عنف، ما سيقضي على مبدأ رئيسي للحراك وهو السلمية التي تعد سلاحا فعالا.
ويقترح المتحدث بدلا عن ذلك، تصعيد الحراك بشكل تدريجي مع الحرص على سلميته، من خلال التركيز على أساليب رمزية كالقيام بإضرابات لمدد محدودة جدا كي لا يتم الإضرار بمصالح المواطنين، وكي لا ينقلب الشعب على الحراك.