تأتي الأحداث لتحمل لنا أخبارا خطيرة لم يعتدها
المصريون في وطنهم حتى في عهود عتاة المستبدين من العسكر. تبدو هذه الأخبار مع كارثيتها كاشفة لحالة الواقع الحقوقي في ملفه الأكثر سوادا وظلاما وظلما.
حقوق الإنسان في مصر كلمات موجعة وتقارير دامغة فاضحة تأتي من هنا وهناك، ومن منظمات حقوقية عالمية وغير حكومية عن كل الملفات الحقوقية، من القتل خارج إطار القانون ومن الاختطاف القسري والتصفية الجسدية، والاعتقال التعسفي والتعذيب،
والقتل البطيء بالإهمال الطبي المتعمد، وتلفيق القضايا، والمطاردة، وانتهاك حقوق المعارضين والنشطاء السياسيين، ضمن خطة تربص واصطياد ممنهج ومنظم وضمن آليات أمنية لا تحترم القانون. وتساند الجهات الأمنية في ذلك جهات قضائية فضلا عن أجهزة النيابات العامة، بل الأجهزة الطبية التابعة لمستشفيات
السجون.
يطول بنا المقام لو ظللنا نعدد هذه الملفات وتلك الأنواع من
الانتهاكات للحقوق والحريات.
هذا النظام الفاجر الفاشي لا سقف له في الانتهاكات وصنوفها، وما كان يُعد استثناء صار عملا متواترا وممنهجا ومنظما من تلك الجهات التي تمارس أقصى درجات وصنوف الانتهاكات، وتدافع عنها باعتبارها عملا قانونيا، وتتخفى في لبوس مكافحة الإرهاب الذي صار في أغلبه مصطنعا بعد أن كان محتملا.
ومن تلك العلامات على أن هذا النظام الفاشي لا سقف له وتخطى كل الخطوط الحمر المجتمعية والعرفية في هذا المقام؛ ما يمارسه هذا النظام في
الانتهاكات التي تتعلق بنساء وفتيات مصر من دون حساب ولا رادع. ورأينا في الآونة الأخيرة انتهاكات بعضها فادح وأغلبها فاضح لم يعتده المجتمع المصري مثل ما يمارس مع عائشة الشاطر وعلا القرضاوي وإسراء عبد الفتاح، على سبيل المثال لا الحصر، ليعبر بحق عن تجاوز كل السقوف والخطوط والحدود؛ حتى صارت الانتهاكات المتعلقة بالنساء والفتيات طقسا أمنيا يوميا يعبر عن حالة حقوقية متدنية ومتردية أشارت إليها جهات دولية حقوقية، ولكن النظام سادر في غيّه ولا يزال يبهرنا بمزيد من تجاوزاته، لتلقى امرأة شابة حتفها في السجن تحت نظر النظام وأجهزته الأمنية.
تشكل وفاة
مريم سالم، المعتقلة السيناوية من دون تهمة في سجون النظام المصري، نتيجة الإهمال الطبي المُتعمد من قبل إدارة مصلحة السجون، شاهدا جديدا على جرائم النظام بحق المعتقلين وأهالي سيناء، ولا يزال عشرات المعتقلين والمختفين قسرا في سجون النظام، بلا تهمة أو محاكمة، في انتظار وفاتهم جراء الأمراض، في ظل غياب القانون، والاهتمام الإعلامي والقانوني بقضايا المعتقلين، ما يستدعي التحذير من مصير آلاف المعتقلين في سجون النظام من سيناء وبقية المحافظات المصرية.
ويشار إلى أن فريق "نحن نسجل" رصد منذ أيام عدة وجود حالة إهمال طبي في سجن القناطر بحق سالم، إذ إنها تعاني من حالة تليّف كبدي وارتفاع غير طبيعي بنسبة "الصفراء"؛ أدى إلى تدهور حالتها الصحية وحدوث مضاعفات نتج منها "استسقاء البطن" نتيجة الإهمال الطبي المتعمد. وأوضح الفريق أنه جرى فصل الطفل عبد الرحمن، الذي كان في حضانتها داخل السجن حتى أتمّ عامه الثاني، ثم تم إيداعه من قبل إدارة السجن دار أيتام نتيجة عدم الوصول إلى أهله؛ الذين يعتقد أنهم معتقلون أو تعرضوا للضرر خلال فترة وجودهم في سيناء في أعقاب اعتقال "مريم سالم".
وكانت مؤسسة "عدالة لحقوق الإنسان" قد أكدت الأحد، وفاة المعتقلة "مريم سالم"، البالغة من العمر 31 سنة، نتيجة الإهمال الطبي المتعمد بحقها، حيث تعنتت إدارة سجن القناطر في تقديم العلاج والرعاية الطبية اللازمة لها على الرغم من معاناتها من تليف كبدي وعدة أمراض أخرى، وكذلك حُرمت من رؤية رضيعها الوحيد عبد الرحمن، الذي أُودِع أحد دور الأيتام. واستنكرت المؤسسة جريمة القتل بالإهمال الطبي بحق المعتقلة، وطالبت بفتح تحقيق عاجل في تلك الواقعة ومحاسبة المسؤولين عنها، وحمّلت السلطات المصرية المسؤولية الكاملة عن تلك الجريمة.
وهنا وجب علينا أن نذكّر بتقرير شديد الأهمية يبدو أننا مررنا عليه مرور الكرام، والذي يشكل بحق إدانة لسلطة فاشية تخطت الحدود ولتخاذل مجتمع فاق الحدود. فقد أكدت منصة "نحن نسجل" الحقوقية الدولية، أن بنات وسيدات مصر يواجهن منذ الانقلاب العسكري الفاشي، في الثالث من تموز/ يوليو 2013، جرائم وانتهاكات متصاعدة، بينها الإخفاء القسري، والتعذيب الجسدي والنفسي، وتهديدهن بالاغتصاب، وتعريضهن للتحرش الجنسي على يد عناصر من قوات أمن الانقلاب، وفقا لما وثّقته خلال السنوات الست الماضية.
أما المرصد الأورو- متوسطي لحقوق الإنسان، فقد تناول في أحدث تقرير له ما وصفها بـ"الانتهاكات الخطيرة" التي تتعرض لها الفتيات والنساء المحتجزات تعسفيا في مقار وأماكن الاحتجاز التابعة للأجهزة الأمنية المصرية.
وذكر التقرير أن "الوضع في مقار وأماكن الاحتجاز في مصر، ولا سيما بالنسبة للمرأة، يخضع لغياب مبدأ المحاسبة، وتسود فيه ثقافة الإفلات من العقاب، بما يمنح القائمين على إدارة تلك الأماكن فرصة ارتكاب المخالفات بحرية ويُكرس مزيدا من الانتهاكات دون أية محاكمة".
ورصدت المنصة "نحن نسجل" في أول تقرير لها تحت عنوان "انتهاكات نساء مصر في العلن والخفاء" 312 امرأة قُتلن بالاستهداف المباشر، قنصا أو برصاص عشوائي أثناء مشاركتهن في تظاهرات، أو أثناء تغطية أحداث سياسية، أو أثناء سيرهن في الشوارع، وكذلك بالقصف الجوي والمدفعي العشوائي على الأحياء السكنية في محافظة شمال سيناء.
كما وثق التقرير تعرض ما لا يقل عن 396 سيدة و16 طفلة للاختفاء القسري، ما زال 15 منهن على الأقل قيد الاختفاء حتى تاريخ 15 تموز/ يوليو 2019، فضلا عن الاحتجاز التعسفي لـ2629 سيدة وفتاة بمقرات احتجاز مؤقتة وسجون، خلال فترة التقرير لمدد متفاوتة، تم إطلاق سراحهن، ولا تزال 127 منهن قيد الحبس والاحتجاز.
وعلى صعيد المحاكمات الهزلية، رصد التقرير إحالة ما لا يقل عن 25 سيدة وفتاة للقضاء العسكري، فيما وصل عدد من تمت إحالتهن إلى "دوائر استثنائية"، 115 صدرت أحكام نهائية بحق 17 منهن وذكر تعرض ما لا يقل عن 2761 سيدة وفتاة داخل مقرات الاحتجاز المختلفة وأثناء القبض عليهن للتعذيب الجسدي والنفسي، وضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية.
وعن الإجراءات التعسفية، رصد التقرير تعرض 350 طالبة للفصل من دراستهن الجامعية، و5 من عضوات هيئة التدريس الجامعية، فضلا عن مصادرة أملاك ما لا يقل عن 100 سيدة، ومنع أكثر من 106 سيدات من السفر خارج البلاد.
وكانت محصلة الإصابات من
النساء جراء التعامل الأمني العنيف في مواجهة المظاهرات وفض الاعتصامات، أو نتيجة العمليات العسكرية والأمنية التي تقوم بها قوات الجيش والشرطة في محافظة شمال سيناء، 239 مصابة (بينهن 87 طفلة) بإصابات مختلفة ومتفاوتة جراء الاستهداف العشوائي للأحياء السكنية، وعدم اتخاذ الحد الأدنى من التدابير اللازمة لحماية المدنيين من أضرار الصراعات المسلحة وفق القانون الدولي الإنساني.
أصبحت الوقائع تتحدث عن نفسها، والحوادث الفاضحة تصرخ بأعلى صوتها وتدق ناقوس خطر ليس فقط لسلطة فاشية استخفت بكل شيء، ولكن لمجتمع جعل من انتهاكات النساء أمرا مرفوضا، واعتبار حقوقهن عرفا مفروضا لم تجرؤ سلطات سابقة مهما كان استبدادها على تجاوز الخطوط والحدود والسقوف. وتكرار الحوادث في ذلك المضمار إنما يؤشر لقيم تتآكل ارتبطت بالمجتمع كحامٍ لها، وتخاذل بدا يطل علينا في مساحات من أخطر الساحات.. ألا فانهضوا، فالمستبد يأبه لكرامتكم والطاغية يستخف بمنظومة قيمكم، ولحمة مجتمعكم وشرفه.