(1)
سيادة الرئيس/
صادق التحية والإعجاب بدأبك وقدرتك على التحمل، لقد هرمنا كما قال الرفيق التونسي متفائلا بثورة الياسمين، لكنك ما شاء الله ولا قوة إلا بالله؛ تمضي جسورا رغم الويلات، لا تؤثر فيك مآسي الناس، ولا ألاعيب إثيوبيا، ولا "عنطزة" ترامب على أتباعه، ولا ديمقراطية نتنياهو حكيم وحبيب الحكام العرب وقائد تحويل العلاقة العاطفية معهم من السر إلى العلن.
أما بعد..
بعد متابعتي لجهودك المضنية في الحرب على
الإرهاب، وكذلك في الحرب ضد الفساد، وضد الشباب الثوري الإسلامي، وضد الشباب الثوري العلماني الذي يعين الجماعة الإرهابية المحظورة، وضد كل من سمع اسمك ولم يهتف تحيا
مصر.. اسمح لي سيادتك أن أطلب مشورتك وخبرتك في أمر مهم ومصيري، لقد قررت أن أشن حربا ضد الصداع.. ضد التشوش.. ضد الملل.. ضد الغوغائية السياسية.. ضد الركود والانسداد والسقوط في بالوعات الصرف الكلامي الفارغ، لكنني يا سيادة الرئيس أشعر بالتعب، ليس تعبي وحدي، لكن تعب الناس جميعا من حولي، قل لي بصراحة يا سيادة الرئيس: كيف نجحت في إنهاك شعب بالكامل؟ كيف فرقت شمل الرفاق في الميدان وسرقت الأمل من العيون؟ كيف أحرقت الحماس واليقين وغرست مكانهما الارتكان والحيرة والتشوش؟.. أنا معجب يا سيادة الرئيس.
(2)
أعرف طبعا أن هذه خطة علمية مستوردة مع اجتهاد محلي في التطبيق بالتاتش المصري. فقد قرأت كتاب ناعومي كلاين عن صناعة صدمات التشوش في المجتمعات، وأعرف قدرة الأنظمة والشركات الكبرى على الغسيل الجماعي للأدمغة، وأعرف أن الهدف المرجو من تصنيع الفوضى والخوف، باعتبارهما البيئة الأنسب لنزع قناعات وغرس أخرى مكانها، لهذا أنتظر النتائج المدهشة لفريقك في أجواء معركة مصر ضد
كورونا، ومعركتها ضد إثيوبيا لضمان تدفق مياه النيل العظيم، أو قبض ثمن معقول في مقابل خراب الفلاحين. فالثمن مناسب أكثر للحكام وللحاشية المستفيدة، وطوابير التعويضات فرصة جيدة لوجهاء المستشارين وديدان الفساد السارحين مع مافيا القروض والتعويضات الدولية.
(3)
لا تؤاخذني على صراحتي يا سيادة الرئيس، فأنا واحد من أفراد الشعب المنهك الحقود الذي ينكسر ظهرة تحت وطأة الأعباء اليومية والفواتير الشهرية، لذلك أتحدث عن القضايا القومية الكبرى من مستوى فردي منخفض، مستوى تأثير القرارات الكبرى على حياتي ومعيشتي، فأنا لا أفهم ولا أريد أن أفهم شيئا من صعود وهبوط مؤشرات البورصة. ولا يعنيني سعر الدولار، ولا أعبأ بجهود الدولة في التنسيق مع منظمة الصحة العالمية بشأن فيروس كورونا، فنحن نموت بكل أنواع الميكروبات والفيروسات، ولا نخسر الكثير بإضافة فيروس ضحاياه أقل ممن يموتون في السجون أو على إسفلت الطرقات، أو من يموتون من الجوع وبأمراض كثيرة أخرى صارت صديقة وفية لأبناء الشعب المريض. ولك أن تسال الدكتور عكاشة أو تطلب إحصائية من وزارة الصحة أو أحد المراكز القومية عن تعداد وتصنيف المرضى المصريين وأعداد الوفيات، لتعرف أن جهود الدولة في احتواء فيروس كورونا ليست إلا مشاركة بروتوكولية في "الهجص العالمي" لحماية الأرض من وباء كورونا، بينما الفيروسات الحقيقية تحكم وتتحكم في الكوكب، وتترأس الدول والشركات المستفيدة من كل هذا الهراء العالمي وتوكيلاته الإقليمية.
(4)
لست جاهلا ولا تواكليا يا سيادة الرئيس، بالعكس أنا رجل "كواليتي"، أفهم في العولمة وأعترف بالقرية الكونية وأرى "كورونا" واحدا من مظاهر إثبات هذه العولمة، وأعبر عن إعجابي بتكاتف العالم وتنسيقه المبهر من أجل مجابهة هذا الفيروس المستجد اللعين. لكن بالله عليك يا سيادة الرئيس: هل أكون عاقلا لو توقفت عند هذا الأداء الفخيم في الرقابة والعزل والنفقات الضخمة؟ هل أبتلع كل هلوسات التغطية الإعلامية الكاسحة التي صاغت أجندة العقل الإنساني حول موضوع بعينه، بينما مئات الآلاف من البشر ومن الحيوانات ومن الأشجار يموتون بأسلحة هذه الدول نفسها، ومئات الآلاف غيرهم يموتون من الجوع، نعم من الجوع يا سيادة الرئيس. ولك أن تسأل الصديق ضياء رشوان مثلا عن دراسات وجهود جان زيجلر الفارس السويسري الذي ظل يحارب الجوع في العالم، حتى خذلته المنظمة الأممية التي تقلق وتقلق وتقلق ثم تقلق وليس أكثر من ذلك.
(5)
قبل سنوات كتبت مقالا بعنوان "جود بلاي سيسي تيم". والعنوان يعترف باللعبة الحلوة ضد ثورة يناير التي لعبها فريق
السيسي (النظام). فكلمة "سيسي تيم" تعني أيضا "سيستم" بعد دمجها، والمقال في جوهره يتحدث عن لعبة تفريغ ثورة يناير من ثوراها ومن أهدافها، وإعادة تثبيت أركان النظام القديم ببشاعة أكثر.
وللعلم أنا لا أحب استخدام كلمة "مؤامرة"، وأحب كلمة "لعبة" وأحب توصيف "التصنيع" أو "الفبركة"، فهي مصطلحات فكرية وسياسية تحدث عن الأولى جان بودرياد في كتابه الذي ترجمه المغاربة "المصطنع والاصطناع". وتحدث عن الفبركة كثيرون مثل والتر ليبمان ونعوم تشومسكي، فالعالم لمن يصنعه، حتى الواقع يتم تصنيعه، لأن الواقع لم يعد "ما يقع أو يحدث من أحداث"، لكن كيف تعيد تقديمها للناس؟ حتى أن الصورة صارت بديلا عن الواقع. لقد مات الواقع الجذري كما أكد بودريارد في العنوان الأجنبي لكتابه، لذلك تفترى سعادتك على الواقع بالصور المكذوبة والأخبار المكذوبة، وتشيد واقعا بديلا من الكلمات والإنجازات التي يلح بها إعلامك على أدمغة الناس، فيصدقها فريق الطائعين المنتظرين حبايب الدولة، ويتشوش غيرهم بين الواقع المعاش والواقع المصطنع، ولهذا بادرت بتحية اللعبة الحلوة حتى لو كانت هدفا في مرماي.. في مرمى الثورة ومطالبات الحرية والعدل والكرامة.
(6)
لا أريد ان أطيل يا سيادة الرئيس، فأنا (كما قلت) مشوش ومشغول بالإعداد للحرب ضد هذا التشوش، فقط أردت أن أقول لك إنني موافق على اللعبة وسأعود إلى الملعب في القريب العاجل، وأقول للمشوشين الحائرين العاجزين من أمثالي: لا تفعلوا مثل الزمالك.. الانسحاب لن يفيد.. اذهبوا إلى المباراة، فالنظام يلعب ويجيد اللعب ضد الثورة وفريقها، بينما نحن نكتفي بالشتائم، وتكرار وصف الظالم بأنه ظالم والفاسد بأنه فاسد، ولا جهد منظم أو ملموس في تغيير ذلك الظلم ولا ذلك الفساد.
المباراة في الملعب وليست في المدرجات، فلا تخلطوا بين جهود اللاعبين وصيحات المشجعين غضباً أو احتفالاً... علينا أن نصنع الواقع الذي نريده ولا نكتفي بلعن الواقع الذي يصنعه غيرنا.. سؤال التصنيع هو سؤال التقدم وسؤال الفرق بين الصانعين والمستهلكين، وعلى كل من يطلب الثورة ألا ينتظرها سلعة في "سوبر ماركت الأنظمة"، فالثورة منتج لا بد أن يصنعه من يشتهيه.
والله المعين.
[email protected]