تنطوي رؤية
تنظيم الدولة للعالم ما بعد جائحة فيروس
كورونا المستجدّ (كوفيد- 19)، على توقعات مستقبلية بالغة السوداوية، حيث يغدو العالم أكثر وحشية في ظل حالة اقتصادية هشة، ويصبح العالم أشد اضطرابا وضعفا من الناحية العسكرية والأمنية، وينحو نحو مزيد من الصراعات والنزاعات الدولية والإقليمية والمحلية.
ويبشر التنظيم بقدوم عالم تسوده حالة من التفكك والصراعات وعدم الترابط، ويتنبأ بحلول موجة جديدة من الاضطرابات والاحتجاجات تجتاح منطقة الشرق الأوسط؛ أعمق وأشد من الموجة السابقة التي شهدتها المنطقة 2011، والتي استثمرها التنظيم بالتمدد والانتشار. ويتوقع التنظيم أيضا أن أنظمة المنطقة لن تجد لها هذه المرة سندا ودعما خلال الموجة القادمة، نظرا لانشغال الدول الكبرى بشؤونها الداخلية الأساسية، وأولوياتها بالحفاظ على مصالحها الاستراتيجية الرئيسية.
تلك هي الخطوط والنقاط الاستراتيجية التي تضمنتها رؤية تنظيم الدولة لوضعية العالم ما بعد كورونا، على لسان المتحدث الجديد باسمه "أبو حمزة القرشي"، من خلال
كلمة صوتية بثتها مؤسسة "الفرقان" التابعة لديوان الإعلام المركزي، الخميس الماضي (28 أيار/ مايو 2020)، بعنوان "وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار".
وتستند الكلمة إلى تصورات دينية ثنوية حادة تقسم العالم إلى فسطاطين (كفر وإيمان)، ورؤية سياسية يتحدد مجالها بتعريف العدو/ الصديق، لا يمكن أن تحسم نتيجتها إلا بالحرب بشقيها الكلاسيكية والعصابات، وهي تصورات تعكس هوية تنظيم "الدولة" كمنظمة دينية سياسية عسكرية راديكالية.
خلال الأسابيع الماضية برهن تنظيم الدولة على أن محنة الجائحة التي ضربت العالم عموما والشرق الأوسط خصوصا، شكلت منحة لمقاتليه وأنصاره.
ففي الوقت الذي عانى فيه التنظيم قبل الجائحة من صعوبات عملياتية بالغة، في إعادة التكيّف الهيكلي والمالي وتنشيط عمليات الدعاية والاستقطاب والتجنيد الضرورية لمواصلة التمدد والانتشار وتنفيذ الهجمات، في ظل تركيز الجهود العالمية والمحلية أولوياتها على المخاطر "الإرهابية" الأمنية، حلّت جائحة فيروس كورونا المستجدّ (كوفيد- 19) في أسوأ وقت لمنطقة الشرق الأوسط، مانحة التنظيم فرصة مثالية نادرة لاستثمار الوباء للانبعاث من جديد.
فقد استثمر حالة الفوضى والانشغال العالمي بأولوية الحفاظ على الصحة العامة من منطلق وبائي أولا، ثم بإعادة تشغيل المحرك الاقتصادي العالمي ثانيا، وبات الاهتمام بحرب "الإرهاب" في مرتبة ثالثة.
في ظل حالة الفزع والخوف التي سادت العالم بسبب جائحة فيروس كورونا، وشيوع حالة من التخبط السياسي والعلمي، وتنامي نظريات المؤامرة وسيناريوهات الحرب البيولوجية، قدم المتحدث الرسمي باسم تنظيم الدولة، أبو حمزة القرشي، تفسيرا دينيا سياسيا لا يبتعد كثيرا عن التصورات والمعتقدات الدينية السائدة في المنطقة، باعتبار الوباء عقابا إلهيا نتيجة الظلم والفساد العالمي.
ويربط القرشي العقاب الإلهي بالجائحة كنتيجة لمحاربة تنظيم الدولة، ويشدد على أن "فيروس كورونا المستجد هو جندي أرسله الله للطواغيت، كعقاب إلهي لهم ولمن يعاونهم من دول الغرب، بسبب محاربتهم التنظيم"، مبدياً "شماتته" و"فرحه" بما أصاب العالم جراء هذه الجائحة.
ويقدم التنظيم تأويلا يخاطب مخيلة دينية إسلامية شائعة حول أسباب انتشار "الأوبئة" تاريخيا وربطها بالابتعاد عن دين الله ومحاربة أتباعه. ويؤكد القرشي على أن الله "أرسل بقدرته على أتباع فرعون طواغيت هذا الزمان، وأشياعهم وأتباعهم ومنتخبيهم وعبيدهم وجنودهم، عذابا من عنده هو أضعف مخلوقاته لا تراه الأعين، وقد حيّر العالم بأسره، وعلى رأسهم الطواغيت والجبابرة". ويضيف: "فاليوم دارت عليكم الدوائر.. نحن نفرح اليوم على ما أصابكم من عذاب الله".
في سياق أيديولوجية تنظيم الدولة الهوياتية التي تستند إلى تصورات دينية ثنائية حادة تقسم العالم إلى فسطاطين (كفر وإيمان)، ورؤيته السياسية بتحديد مجالها بتعريف العدو/ الصديق، وبناء استراتيجيته العسكرية التي تقوم على منطق الحرب الهجينة الجامعة بين الكلاسيكية والعصابات، يقسَم القرشيُ العالمَ إلى فريقين، الأول فريق إيمان لا نفاق فيه، والثاني فريق نفاق لا إيمان فيه، واضعاً الحكومات العربية المسلمة وكل من لا يبايع تنظيمه، من الإخوان المسلمين إلى القاعدة، في المعسكر الثاني.
فقد وضع القرشي "تنظيم القاعدة" ضمن الكفار والمرتدين الذين يحاربون تنظيم الدولة، قائلاً إن عناصر "القاعدة" يحاربون "الدولة" بالوكالة عن دول التحالف في غرب أفريقيا ودول الساحل، وأن القاعدة وطالبان في أفغانستان تقاتلان تنظيم الدولة مقابل التفاوض مع الحكومة الأفغانية، وأن طالبان تصطف إلى جانب قوات التحالف الدولي وتشترك معها في القتال.
وهاجم القرشي الإخوان المسلمين باعتبارهم مرتدين ورأس حربة في تشكيل الصحوات في العراق وسوريا وغيرهما من المناطق. كما شن التنظيم حملة واسعة على كلّ من تركيا وقطر، قائلاً إن قاعدة العديد التي تستضيفها قطر كانت ولا زالت قاعدة ضربات التحالف ضد تنظيم الدولة في سوريا والعراق واليمن.
كما هاجم المتحدث التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، زاعماً أن دول الغرب ستتخلى عنه بسبب انشغالها بأزماتها الداخلية التي خلفتها جائحة كورونا.
يؤكد تنظيم الدولة أن عالم ما بعد الجائحة مختلف عن العالم ما قبل الفيروس التاجي، ويتوقع حدوث تحولات جيوبوليتيكية كبيرة على بنية العالم، ولا سيما الشرق الأوسط، وأن الوضعية الجديدة للعالم تخلق فرصا جديدة وتشكل لاعبين جددا، وفي مقدمتهم التنظيم.
فالأزمة القادمة حسب القرشي ستخلق فرصة أفضل من سابقتها التي شهدت احتجاجات "الربيع العربي"، والتي تمكن التنظيم من استثمارها. فحسب توقعات الناطق الرسمي لتنظيم الدولة، فإن "العالم مقبلٌ على أمور عظيمة"، وما يحدث اليوم "ما هو إلا إرهاصات لتحولات كبرى، ستشهدها بلدان المسلمين في الفترة المقبلة، وستكون فيها فرص أعظم" من التي توفرت للتنظيم قبل 10 سنوات، مطالباً مقاتلي التنظيم وأنصاره بالاستعداد لاستغلال الفرصة. ونقل لأنصاره تعليمات زعيم التنظيم،
أبي إبراهيم الهاشمي القرشي، برسم الخطط ومضاعفة العمليات، والسعي لتهريب سجناء التنظيم من السجون في كل مكان.
إن الصورة التي يقدمها تنظيم الدولة لأوضاع العالم عموما والمنطقة العربية، خصوصا بعد الجائحة، تهيمن عليها حالة من الفوضى والتوحش غير مسبوقة، حيث يسود العنف بصور وأشكال متعددة، وهي بيئة مثالية توفر للتنظيم عودة أكبر من سابقتها، ولذلك يوصي المتحدث باسم تنظيم الدولة عناصر التنظيم بالاستعداد وتبني تكتيكات قتالية أشد عنفا من السابق، إذ يقول: "أعدوا للمرحلة القادمة ما تستطيعون من القوة ومن رباط الخيل.. نوصيكم بالشدة على أعداء الله الكفرة خاطبوهم بالسيوف المرهفات وسيروا الغزوات.. لا تتركوا يوما يمر على المرتدين وأسيادهم إلا ونغصت عليهم عيشهم فاكمنوا لهم في الطرقات".
رغم انتشار تنظيم الدولة في بلدان عديدة، فإن القيادة المركزية للتنظيم تبقى في العراق، ولذلك كثّف تنظيم الدولة من
هجماته في العراق، وتصاعدت عملياته. إذ يحاول التنظيم الاستفادة من أزمات بغداد المتراكمة التي تشمل التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران وانخفاض أسعار النفط والاحتجاجات التي تغطّي البلاد بأسرها، وسوء التفاعل بين القوات المسلحة العراقية في محاربة التنظيم؛ ووباء فيروس كورونا.
وقد هدد القرشي في خطابه، الطائفة الشيعية وتوعدها بأن الحرب لا زالت طويلة، قائلا إنها غير قادرة على المواجهة، كما توعد عناصر الحشد الشعبي في العراق، بمواجهات عسكرية كثيفة بعد بدء انسحاب القوات الأمريكية، لافتا إلى أن هناك تنظيمات داخل العراق تنظر إلى مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء الجديد، على أنه أقرب لهم من نوري المالكي.
وقال: "في ولاية العراق فقد عاد مرتدو الصحوات لإخراج رؤوسهم من الجحور التى دخلوها من سنين، وهم يأملون في أن تتيح لهم أمريكا إعادة تنظيم فصائلهم المنقرضة وأن تمنحهم إقليماً يحكمونه بشريعة الطاغوت". وأضاف: "لقاء ذلك الإقليم الذي يريدون، تريد منهم أمريكا جنداً محضرين في قتال دولة المسلمين وإعاقة نشاط جنودها، هناك كما يفعل إخوانهم في الشام اليوم".
خلاصة القول أن تنظيم الدولة يقدم رؤية للعالم والمنطقة ما بعد الجائحة تسود فيها النزاعات، والصراعات تؤسس لحالة من التوحش والفوضى. وبعتبر الجائحة عقوبة إلهية للكفار والظلمة والفاسدين، وتشكل منحة وفرصة لأتباع وأنصار التنظيم.
ولا شك في أن تنظيم الدولة يمتلك خبرة طويلة باستثمار الفرص واختلال الظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما حدث بعد الثورات المضادة لانتفاضات "الربيع العربي". فلطالما شكل تنظيم الدولة انعكاسا لفشل سياسات "الدولة الوطنية" المحلية الاستبدادية، وضعف الحوكمة، وسوء تدبير الانقسامات المذهبية والإثنية والخلافات السياسية والأيديولوجية، ولطالما كان نتيجة للحرب الباردة الطائفية الإقليمية، وبؤس التدخلات الإمبريالية الخارجية الدولية.
ولا يبدو أن ثمة مؤشرات لدى الأنظمة السياسية المحلية على تحولات إيجابية في المنطقة، والاستفادة من الأزمات والتحديات السابقة، بتقديم جرعة من الإصلاحات السياسة والاقتصادية، بل على نقيض ذلك تماما، إذ تتجه المنطقة نحو أنظمة فاشلة تعمل على عسكرة الدولة و"بولسة" المجتمع، وتلك هي الوصفة المثالية لولادة العنف والراديكالية.
twitter.com/hasanabuhanya