لم يكد يصدر قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بإعادة متحف آيا صوفيا إلى مسجد؛ حتى فوجئنا بالقوم في مصر ومن حولها من عواصم الثورة المضادة، ينفرون خفافاً وثقالاً، ويهرعون خماصاً وبطاناً، للوقوف ضد القرار، والهجوم على من أصدره، وكأنهم من السلالة البيزنطية، بكل ما يحملونه من غل تجاه ما يذكرهم بهزيمتهم الكبرى على يد فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح!
في الواقع إن الحملة بدأت مبكراً بواسطة دار الإفتاء المصرية، التي خرجت على مقتضى الواجب الوظيفي وهاجمت أردوغان، وفي طريقها هاجمت محمد الفاتح، الذي حوّل كنيسة إلى مسجد، وهو ما يريد خليفته أردوغان أن يفعله، ولم تتراجع إلا بعد أن ضبطت متلبسة بالجهل، وتم تذكيرها بالحديث النبوي الذي يبشر بفتح القسطنطينية؛ فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش!
بكاء وعويل:
وبصدور الحكم، وتنفيذه في التو واللحظة من قبل أردوغان، انطلق أهل بيزنطة في مصر ومن حولها في حالة بكاء وعويل، وإذ بباحثين يصابون بالخفة، حتى يصل الحال بواحد مثل "نبيل عبد الفتاح"، الباحث المتقاعد بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن يرجع القرار إلى أنه محاولة من أردوغان لكسب ما أسماه بالتدين الأناضولي المتشدد، فنحت مصطلحا جديداً، يمثل فتحاً في مجال العلوم السياسية، دون أن يحدد ملامح التدين الأناضولي المتشدد هذا!
بصدور الحكم، وتنفيذه في التو واللحظة من قبل أردوغان، انطلق أهل بيزنطة في مصر ومن حولها في حالة بكاء وعويل، وإذ بباحثين يصابون بالخفة
ولا شك في أن كثيرا من الباحثين قد تعرّوا في زمن الفتوحات
الإعلامية والسياسية، عندما انطلقوا لينالوا حظاً من الحياة الدنيا، ولتذكرنا هذه الخفة بواقعة "إيه أخبار الخبراء يا هيكل؟!".
فالرئيس السادات يروي كيف أن الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل أراد أن يسيطر عليه، في بداية توليه منصب رئيس الجمهورية، وكان كلما التقاه يحدثه عن أن الدولة على وشك الانهيار بسبب سوء الأحوال في كل المجالات. ويقول السادات إنه في كل مرة كان يسأل القائمين على دولاب الدولة، فيكتشف أن الأمر ليس كما يسوقه هيكل. وذات يوم حقق له المراد، فسأله: وما العمل؟ لينطلق هيكل عارضاً خطته؛ فمؤسسة الأهرام الصحفية فيها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وفيه خبراء من كل المجالات، وتنبغي إحالة ملفات الدولة إليهم لدراستها ووضع الحلول. وهنا سخر منه السادات، وكان كلما التقاه يسأله: "ايه أخبار الخبراء يا هيكل؟!".
وها هو أحد الخبراء، ينطلق في هجومه على القرار التركي بأنه يستهدف "شد عضد الإسلام الأناضولي المتشدد في ظل تراجع شعبيته وأزمة الاقتصاد التركي"!
التوظيف السياسي:
ولم يكن "الخبير الكبير" وحده هو ما اندفع في اتجاه تفسير القرار بأنه محاولة من أردوغان للتوظيف السياسي، ومن أجل شعبيته، وليس من أجل الله ورسوله، فهو يستهدف كسب الشعب التركي، وفي المقابل هناك من ذهبوا الى النقيض تماماً بادعاء أن الدافع إليه هو الروح المستبدة لأردوغان، الذي لا يكترث بغضب "ملايين المسيحيين الأتراك" بحسب رأي جريدة "اليوم السابع"!
وإذ اندفع السوري محمد حبش الذي يعمل أستاذاً للفقه بجامعة أبو ظبي، وأعلن أنه كان يتمنى أن يصبح "آيا صوفيا" مكانا للعبادة لكل الأديان، فإن كاتباً مصريا قال إنه "لو أعادها كنيسة كما كانت في الأصل لكان ذلك خير تعبير عن روح الإسلام وجوهره وسماحته"، بينما أفتى وكيل الأزهر السابق بعدم جواز تحويل كنيسة إلى مسجد!
ولو جمعت هذه الدفوع التي أبداها البيزنطيون المصريون وأمثالهم في عواصم الثورة المضادة، لوقفنا على تناقض كبير فيها والجامع بينها هو المعارضة لأردوغان، وهذا هو بيت القصيد!
إنهم ضد أردوغان في الأصل، ولو حوّل المتحف إلى كنيسة، أو مجمع أديان كتجربة السادات الفاشلة، أو حتى لو تجاهل حكم المحكمة العليا، واستمر "آيا صوفيا" متحفاً!
إنهم ضد أردوغان في الأصل، ولو حوّل المتحف إلى كنيسة، أو مجمع أديان كتجربة السادات الفاشلة، أو حتى لو تجاهل حكم المحكمة العليا، واستمر "آيا صوفيا" متحفاً!
ولا ننكر أن جزءا من هذه الردود المضطربة مرده إلى الجهل، لا سيما من الذين يقومون بالتهوين من القرار، وباعتباره قراراً فاقدا للقيمة والمعنى، ولا يعلمون أنه حلم تركي، لأن آيا صوفيا ليس مجرد جامع تحول إلى متحف، ولكنه رمز له دلالته، وعودته كما كان هو دليل على تحرر القرار التركي الوطني من التبعية!
حلم قديم:
لقد أعاد الصحفي محمد العباسي التذكير بحوار قديم له مع أردوغان قبل 26 عاماً، ربما كان وقتها رئيس بلدية إسطنبول، يتحدث عن حلم حياته بإعادة "آيا صوفيا" مسجداً كما كان، والذي تحول الى متحف في زمن التبعية وانهيار الدولة العثمانية، وفي ظل سعي كمال أتاتورك للتقرب للغرب بالنوافل.
ويعلم الأتراك كما يعلم المتابعون للمشهد التركي من غير أبناء بيزنطة في مصر وضواحيها، أن الخوف من الغضب الغربي هو ما كان يحول دون تحويل هذا الحلم إلى حقيقة. والغرب إن كان لا يمانع في تحويل الكنائس إلى مساجد على أرضه، إلا أن الأمر يختلف عندما يكون المستهدف "آيا صوفيا"، لأن استمراره متحفا هو عنوان لانتصار مشروعه وهيمنته على المنطقة، وانتقال
تركيا إلى معسكر التبعية!
فلما وجد أردوغان نفسه واقفاً على أرض صلبة حقق هذا الحلم، ليكون القرار كاشفاً وليس منشئاً لاستقلال تركيا، وأن آيا صوفيا أمر يخص بلاده باعتبارها دولة ذات سيادة!
لما وجد أردوغان نفسه واقفاً على أرض صلبة حقق هذا الحلم، ليكون القرار كاشفاً وليس منشئاً لاستقلال تركيا، وأن آيا صوفيا أمر يخص بلاده باعتبارها دولة ذات سيادة!
ولهذا أوب معه الشعب التركي،
بمن في ذلك معارضوه. وقالت زعيمة حزب الجيد ميرال أكشينار التي تولت في السابق وزارة الداخلية التركية، إنها تعتذر لأردوغان على قولها إنه لن يستطيع فتح آيا صوفيا للصلاة.
وقال داود أوغلو المعارض لأردوغان حالياً: إن فتح آيا صوفيا للعبادة، هو تحول الشوق، الذي دام عشرات الأعوام إلى حقيقة!
هل تذكرون محرم أنجه، أو "محرم بيه" كما كان يصفه أحمد موسى من القاهرة، وهو المنافس لأردوغان على منصب الرئيس، والذي تم إعلان نجاحه في القاهرة قبل إعلان نتيجة الانتخابات التي أكدت سقوطه؟ محرم بيه هذا ثمّن القرار، وقال لو دُعيت
لصلاة أول جمعة في آيا صوفيا سألبي!
الأمر الذي يعني أن إعادة "آيا صوفيا" مسجداً كما كان على مدى 481 عاما حلم الأتراك، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية والفكرية، لأنه لم يصبح متحفاً إلا في زمن التعبية والهوان، ولهذا فقد نسوا التنافس السياسي والخلافات الحزبية، وأيدوا هذا القرار الشجاع من حاكم شجاع، فعل ما لا يمكن لغيره أن يفعله!
لكن أهل بيزنطة لهم رأي مختلف، وقد تماهى موقفهم مع موقف أشقائهم في اليونان، الذين استنكروا أن تتحول كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، وباعتبار أن هذا تم بالإكراه، ليكون السؤال: ولماذا لم يستغل المكره ضعف الدولة التركية والتقدم بطلب بمساعدة الغرب لإعادته كنيسة كما كان؟ ولم نر للمكره القديم وجوداً في أي مرحلة من مراحل التقاضي التي استمرت لسنوات؟ ولماذا لم تكن لهم دعوى مستقلة من أجل هذا الهدف؟ ولماذا سكتوا على تحويل كنيستهم إلى متحف ولم يجدوا في هذا ضررا؟!
إننا نحمد الله أن أهل بيزنطة في الأصل ذيول للحكم السعودي، ولا يمكنهم إغضابه، إذ لولا ذلك، لاعتبروا فتح مكة غزواً، وطالبوا بناء على ذلك بعودة الكعبة إلى المشركين عبدة الأوثان!
إننا نحمد الله أن أهل بيزنطة في الأصل ذيول للحكم السعودي، ولا يمكنهم إغضابه، إذ لولا ذلك، لاعتبروا فتح مكة غزواً، وطالبوا بناء على ذلك بعودة الكعبة إلى المشركين عبدة الأوثان!
ومن أجمل ما قرأت إن القوم يستنكرون تحول "آيا صوفيا" إلى مسجد، مع أن هذا ارتبط بفتح القسطنطينية، والتي يعد اسمها الحالي "إسطنبول" من تجليات هذا الفتح، فلماذا لا يطلبون في الوقت نفسه بإعادة الاسم القديم للمدينة؟!
الإجابة على هذا السؤال ستعود بنا إلى بيت القصيد، وهو أن المستهدف بالرفض هو أردوغان، وليس هو من فتح القسطنطينية، وقام بتغيير اسمها!
لكل داء دواء يستطب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها.
twitter.com/selimazouz1