كتاب عربي 21

الجنرال يأكل الرغيف

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
"علمني جوع الفطام إن اللي عشمان في الغموس/ لازم يغوص في النار/ وعينه مشعللة"..

يبدي المغني إيمان البحر درويش ملاحظة أدائية على نطق كلمة "مشعللة" بعد حرف العين في كلمة "عينه"، فيغيرها الشاعر محمود جمعة بالاتفاق مع الملحن فاروق الشرنوبي إلى: "لازم يغوص في النار ويشبع م الألم".

صدرت "أغنية الأم" كهدية من محمود لي ولأمي، ولهذا قصة سوف أحكيها عندما نجد وقتا للكتابة الرحبة، أما اليوم فإن الأغنية تذكرني بالجوع.. بالخبز الحاف و"الغموس"، وتذكرني كذلك بمفارقة طبيب الفلاسفة السيكوباتي التي قال فيها: "الحكاية مش حكاية حكومة ولا قيادة.. الحكاية حكاية ناس شبعت من الجوع وشربت من العطش..".


هل قرار "القيادة" يقصد تحريض الحكومة على تجويع الشعب لكي "يغوص في النار ويشبع م الألم"؟

(2)
لم أتعجب من قرار "سخط الرغيف" في مصر، لأن السلطة في نظري هي "عجب العجاب"، ولم يعد غريبا علينا أن تفعل كل مستغرب ومستنكر وعجيب، لكن لا بأس من التفكير ومن الكلام، حتى لو كان لتسلية الجائعين أثناء "سلق الحصي". ولنبدأ بسؤال افتراضي: هل قرار "القيادة" يقصد تحريض الحكومة على تجويع الشعب لكي "يغوص في النار ويشبع من الألم"؟


أنا أعرف أن محمود جمعة كان يقصد تحريض الجائعين على الثورة، فهل يعرف ذلك أيضا صاحب قرار خفض الخبز وزيادة الجوع؟.. هل يقصد تحريض الناس على الثورة؟ أم يتجاسر ويتحامق ويتغابى ويتحدى ويهين ويذل، ويعبر عن ثقة القيادة وحكومتها في عدم قدرة الجائعين على الثورة؟.. واللي عاوز يجرب يقرب!!

يقول التاريخ إن سؤال الخبز هو "سؤال الثورات" وسؤال الحياة نفسها، أي "سؤال العيش"، حتى أن المصريين أطلقوا على الخبز صفة "العيش"، وهي الصفة التي تصدرت مثلث شعارات ثورة يناير قبل الحرية والكرامة، باعتبار أن صفة "العيش" تتضمن بُعد العدالة الاجتماعية الذي تتم إضافته للشعار كبعد رابع.

ويقال إن أول ثورة شعبية في التاريخ المصري (ثورة إيبور) كانت ثورة خبز، كما كان الخبز حاضرا بقوة في سرديات الثورة الفرنسية، سواء في الأدب مثل "بائعة الخبز" لإكزافيه دي مونتبين؛ أو "البؤساء" لفيكتور هوجو، والتي تنطلق أحداثها من تحطيم واجهة فرن لاقتناص رغيف خبز لأطفال جياع، أو في الأمثولات السياسية والإعلامية التي ارتبطت بنظرة القيادة للجياع، من خلال القول المنسوب لماري أنطوانيت والتي تتعجب فيه من عدم أكل الفقراء "الكرواسون" بدلا من الخبز، عندما قالوا لها إن الشعب غاضب وثائر لأنه لا يجد الخبز!

 

سؤال الخبز هو "سؤال الثورات" وسؤال الحياة نفسها، أي "سؤال العيش"، حتى أن المصريين أطلقوا على الخبز صفة "العيش"، وهي الصفة التي تصدرت مثلث شعارات ثورة يناير قبل الحرية والكرامة،

(3)
في مقابل أسلوب "الإحسان الحكومي" الذي ينطلق من المثل القديم "اطعم الفم تستحي العين"، أو بصياغة سياسية "اطعم الفم تكسر العين"، أو بصياغة سيساوية "خدت الكرتونة تدينا صوتك".. في مقابل هذه المقايضة السلمية القديمة ظهر أسلوب "جوّع كلبك يتبعك"، وتم استخدام "سلاح التجويع" كسلاح للتحكم وضمان التبعية، دون خوف من تحريض الجياع على الثورة، فالقوة الغاشمة كفيلة بقمع أي ثورات، وبالتالي لماذا يضطر الديكتاتور لترضية الجياع؟

وبرغم أن أسلوب التحكم بالتجويع قديم، إلا أن "جوبلز" استعاده ضمن التطبيق الحديث لفلسفة القوة أثناء الحكم النازي، وصاغه في ذلك الشعار الذي ينطلق من حق الأقوياء في سحق الضعفاء واستعبادهم.

وفي دراساته الحديثة عن سلوك الطغاة، أكد عالم السياسة الأمريكي "بروس بيونو دومسكيتا" أن "الديكتاتور المثالي" يجب أن يسرق من الفقراء لكي يكافئ الأغنياء. فالفقراء عبء عليه، أما الأغنياء فهم القوة التي يجب أن يكسبها ويرضيها لتساعده على البقاء في السلطة. وبالتالي، فإنه يسقط الضرائب عن المستثمرين والفئات الداعمة والأثرياء الموالين، ويقترض من الخارج بأرقام كبيرة، بينما يرفع الأسعار وقيمة الضرائب على الفقراء لتوفير الأموال اللازمة لمكافآت الداعمين وتسديد أقساط القروض.

(4)
في نصيحته الهزلية للديكتاتور، يقول دومسكيتا: خذ من الفقراء وأعط الأغنياء.

ويحدد عدة مراحل وخطوات للنجاح في تحقيق هذا الشعار، لأن أساليب سرقة الفقراء تختلف من مرحلة لأخرى. ففي "مرحلة الوصول إلى السلطة" على الديكتاتور أن يستخدم "خطاب نور عينينا"، وفي "مرحلة التمكين" عليه أن يستخدم تصريحات الفقر والعوز و"انتو فقرا قوووي"، ثم في مرحلة "ضمان البقاء" في السلطة عليه أن يمد يده في جيوب الناس ليأخذ ما لديهم بكل قسوة، دون خوف من أي رد فعل، لأن الفقراء لا يملكون الإرادة ولا التنظيم ولا الأدوات التي تشكل أي خطر على الديكتاتور، ما دامت لديه الأموال التي يوزعها على الفئات القوية الداعمة لبقائه في السلطة، وهو ما يعرف في التجارب الديكتاتورية الحديثة باسم "التجربة البورمية".

(5)
بورما (ميانمار حاليا) دولة غنية بالموارد الطبيعية، لديها غاز طبيعي وذهب وأحجار كريمة ومعادن كثيرة وأخشاب، وكميات تصدير هائلة من هذه الثروات الطبيعية، لكن أموال الصادرات لا تصل أبدا إلى الشعب الذي يعيش في ظروف سيئة ومتخلفة، فالجنرالات يحتكرون كل شيء.

وحدث أن الجنرال المخيف ثان شوي خرج من السلطة بالتزامن مع الربيع العربي وتداعياته، لكن فترة حكم الجنرال المرعب هي ما أقصده بمصطلح "التجربة البورمية"؛ التي شدد فيها شوي قبضته على البلاد بعد إلغاء نتيجة الانتخابات واقتناص الحكم، واتبع سياسة القمع الدموي والحجب التام وحصار الشعب في معيشة الضنك والفقر والجهل، فقد منع المظاهرات وقيد الصحافة. وحدث أن أحد الصحفيين الاقتصاديين من مجلة "إيكونوميست" كان في زيارة للبلاد، وتعرف على رغبة الناس في تغيير الحكم، لكن هذه الرغبة كانت مصحوبة بإدراك نهائي لعجز الناس عن التغيير، لذلك كان بعضهم يسأل الصحفي (بعد أن تولدت الثقة بينهم): كيف يمكن إقناع الولايات المتحدة بأن تغزو بلادهم لتحررها من طغيان الديكتاتور؟!

(6)
عندما يتردد مثل هذا الكلام في ميانمار البائسة، فإنه لا يشبه أبداً "العريضة" التي قدمها بعض اللبنانيين للرئيس الفرنسي لإعادة بلادهم تحت الانتداب أو الوصاية الفرنسية، لأن المطلب اللبناني مشفوع بتاريخ وميول ثقافية، بينما الوضع في ميانمار مغلق إثنيا ودينيا، ولا يوجد ما يستدعي طلب الغزو الأمريكي إلا رغبة العاجز في تغيير الطاغية المحلي بأي قوة أخرى، حتى لو كانت بطريقة "فاوست" في التحالف مع الشيطان.

وبعد حوالي 16 سنة من الحكم الشمولي المرعب، خرجت أول مظاهرة ضد ثان شوي في شتاء عام 2007، بسبب زيادة أسعار الوقود وبعض السلع، وكانت مظاهرة صغيرة شارك فيه المئات، لكنها كانت تتجدد لعدة أيام، حتى أمر الجنرال الدموي بسحق المتظاهرين وعدم السماح بعودة أسلوب التظاهر بأي ثمن، وقد تم إلقاء القبض على الجميع بمن فيهم العاملون في الصحافة المحلية والأجنبية التي تنقل الأخبار.

ونشرت الصحف المحلية أن "20 شخصا من العملاء تظاهروا ضد الدولة وتم إلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم بعد 30 دقيقة من الخروج عن قوانين البلاد".

 

الديكتاتور لا ينتقص من رغيف الفقراء وحده، لكنه ينتقص من راحتهم، ومن أفراحهم، ومن كرامتهم، ومن إرادتهم، ومن طعم أيامهم، ومن مستقبل أولادهم

لكن حدث أن عشرات الرهبان بدأوا حركة تذمر تصاعدت في خريف ذلك العام، وأطلقت عليها الصحافة الأجنبية اسم "الثورة البرتقالية" نسبة إلى لون رداء الرهبان، لكن الدولة البوليسية قيدت بعض الرهبان في أعمدة الإنارة على الطرقات، وعذبتهم أمام أعين الشعب الذي يوقر رجال دينه.

ولما أدى عنف الدولة مع الرهبان إلى اتساع الاحتجاجات، اضطر شوي لإغداق المكافآت على أجهزة القمع لتشجيعها على وقف الرهبان بأي ثمن، فتمت مهاجمة الأديرة واعتقال عشرات الرهبان، وسحق المحتجين بالعصي والكرابيج والرصاص المطاطي.

ونجح شوي في قمع الاحتجاجات عن طريق شراء ولاء الأجهزة البوليسية والعسكرية بالمال الذي يقتطعه من رغيف الفقراء. لكن شوي لن يستمر للأبد، فقد انتهى حكمه، لكن نظرية الحكم الديكاتوري نفسها لم تنته: نظرية خذ من الفقراء وامنح الأغنياء.

وللتوضيح أكثر، فإن الديكتاتور لا ينتقص من رغيف الفقراء وحده، لكنه ينتقص من راحتهم، ومن أفراحهم، ومن كرامتهم، ومن إرادتهم، ومن طعم أيامهم، ومن مستقبل أولادهم..

وللقصة بقية..

[email protected]

التعليقات (0)