هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
فكرة النظام العام هي من الأفكار الأساسية التي يرتكز عليها علم القانون، إلا أنها ليست فكرة قانونية خالصة ابتدعها علم القانون فانحصرت فيه وتقوقعت داخله، بل إنها تطالعنا خارج علم القانون. كذلك تجد لها مكانا بين العلوم الإنسانية المختلفة، لتقع في منطقة التماس بين علم القانون وعلوم السياسة والاجتماع والاقتصاد..
فهي مفصل من مفاصل ربط هذه العلوم بعضها ببعض، باعتبارها إحدى قوى التأثير داخل المجتمع والدولة. ففكرة النظام العام في وضعها المعاصر توصف بأنها صمام أمان حافظ لأي نظام اجتماعي، مما قد يتهدد أسسه التي ينبني عليها، فضلا عن كونها الغطاء الشرعي لدفع حركة المجتمع تحقيقا لأهدافه.
من الثابت أن فكرة النظام العام من نتاج الفكر القانوني الغربي.. إلا أن النظر إلى وظيفة الفكرة ومضمونها يكشف عن أبعاد كونية لها. فمهمة الحفاظ على قيم المجتمع الأساسية ومرجعيته العقدية وأسسه الفلسفية الأيديولوجية، وهي المعروفة بالأصول والكليات التي تبني عليها الجماعة حركتها، فلا شك أن الشريعة الإسلامية تضمنت من الأفكار ما مكنها من الاضطلاع بهذه المهمة.
إن سيطرة المؤسسات الدينية على المجال العام يطرح تساؤلا مهما لا يمكن القفز عليه أو الغفلة عنه طرحا وإجابة: هل يعني ذلك أن تبتعد المؤسسات الدينية كلية عن المجال العام ضمن رؤية علمانية؟ الأمر ليس على هذا النحو، فكثير من المؤسسات الدينية حتى في الحضارة الغربية شكلت واحدة من الفعاليات التي تدخلت في المجال العام فضلا عن المجال السياسي (الكنيسة في بولندا، وفي أمريكا اللاتينية).
ومن هنا، فإن الأمر لا يرتبط ربما بانخراطها المباشر في المجال العام، بحيث تحل الكنيسة محل مؤسسات أخرى وجب أن يرتبط بها ذلك المجال العام والخطاب العام، أبرز ما في ذلك بروز وتكرار الحديث عن شعب الكنيسة، ومحاولات تسييس ما يسمى بأحداث الفتنة الطائفية. وقد تزامن ذلك مع انسحاب الدولة من مساحة تتعلق بالمجال العام، مما أدى إلى فراغ ربما حاولت بعض المؤسسات ملئه، خاصة حينما يتعلق الأمر بمنظور توجه بعينه ينظر للأقباط كطائفة أو أقلية.
هناك كذلك ما يتعلق بعشوائية النظر، فضلا عن عشوائية الواقع الذي يتعلق بالمجال العام على وجه العموم، ذلك أن المجال العام بدا كساحة متنازع عليها ضمن قوى شتى لا تعبر الكنيسة إلا عن واحدة منها.
وفي هذا السياق، فإن النشاط القبطي في مصر ليس بعيدا عن هذه الأرضية الحوارية، إلا أنه يجب أن نجيب وبوضوح وتمييز على مجموعة من الأسئلة. هذه الأسئلة التي تطرح أو يُسكت عنها، من المهم أن نخرجها لحال العلن والمكاشفة في إطار شفافية تعكس حقيقة العلاقة بين عناصر النسيج الاجتماعي للأمة، وتشكل أحد أهم مظاهر لحمة الجماعة الوطنية والسياسية، وذلك ضمن مدخلين للمرجعية يجب الوقوف عليهما؛ مرجعية الجماعة الوطنية وقواعد النظام العام التي لا تستنكف من أن تجعل الثقافة الإسلامية أصلا مرجعيا مكينا (الاعتراف بالثقافة العامة والثقافات الفرعية المتنوعة)، ومرجعية المواطنة في العمل السياسي والشأن العام وقضايا الحقوق والواجبات، بما يؤسس لجماعية المواطنة عبر الوطن ودون أدنى شبهة للاستقواء بالخارج أو العمل خارج قواعد تأسيس الجماعة الوطنية.
في هذا السياق، يجب النظر الى فكرة تأسيس الجماعة السياسية والمجتمع السياسي على قاعدة دستورية تشير الى قيمة الفكرة التعاقدية. إن تأسيس دولة المواطنة في دستور المدينة كان يشير إلى فكرة المواطنة في دولة مسلمة ضمن مفهوم متميز للجماعة السياسية والثقافية، في إطار ما أشار إليه الأستاذ الدكتور فتحي عثمان رحمة الله عليه حينما جعل من "دولة الفكرة" عنوانا لكتابه.
نصت وثيقة دستور المدينة على اعتبار الإسلام أساسا في الدولة الإسلامية الجديدة التي قامت في المدينة المنورة، وإيذانا بنشأة جماعة سياسية لا تقتصر على عالم المسلمين فحسب؛ إذ أحلت الوثيقة الرابطة الدينية محل الرابطة القبلية، فعبرت عن المسلمين بأنهم "أمة من دون الناس" (م/2)، ويجعل هذا النص المسلمين أمة يجمع بين أفرادها الإيمان بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، دون نظر إلى أصولهم القبلية أو النسبية. وهذه ظاهرة يعرفها المجتمع العربي لأول مرة في تاريخه، فلم يجتمع فيه الناس قبل الإسلام إلا على أساس من صلات القرابة والنسب.
وأشارت كذلك الى الرابطة المكانية كساق ثانية يؤسس عليها المجتمع السياسي؛ المواطنة للمسلمين مقتصرة على المقيمين في المدينة من أهلها وممن هاجر إليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قبله أو بعده، ولا تشمل المسلمين غير المقيمين في المدينة، لقول الله تعالى: "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق" (الأنفال: 72).
ولم تحصر المواطنة في الدولة الإسلامية الأولى في المسلمين وحدهم، بل نصت الوثيقة على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة، وحددت ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات. ففي فقرتها (25) تقرر الوثيقة أن "يهود بني عوف أمة مع المسلمين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم". ولا تقف عند يهود بني عوف وحدهم، وإنما تمضي النصوص من الفقرة (26) إلى الفقرة (36) لتقرر باقي قبائل اليهود مثل ما تقرر ليهود بني عوف. بل إن بعض النصوص تشير إلى واجبات على المشركين من أهل المدينة، مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة وخضعوا لأسس تنظيمها التي وردت في وثيقتها. وأوضح هذه النصوص هو نص الفقرة (20 ب) الذي يقرر أنه "لا يجير مشرك مالكا لقريش ولا نفس، ولا يحول دونه على مؤمن". وهكذا يتبين أن عنصر الإقليم (المدينة) والإقامة المرتبطة به عند نشأة الدولة هو الذي أعطى هؤلاء اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها الوثيقة لهم.
وقد نظمت الأحكام الإسلامية بعد ذلك في القرآن والسنة؛ أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وعرضت لذلك كتب الفقه الإسلامي المتخصصة في موضوع اهل الذمة، والمبسوطة الشاملة لأبواب الفقه كافة تحت عنوان "أهل الذمة". ولا يختلف الباحثون (من مسلمين وغير مسلمين) في أن الإسلام قد كفل لأهل الذمة حياة كريمة عزيزة، لحمتها العدل معهم والمساواة بينهم وبين المسلمين وفق أحكام الإسلام التي تقرر ذلك، وسداها الرفق بهم والتسامح معهم في كل ما لا يخل بأحكام الدين الإسلامي أو يعرض نظام دولته لخطر أو ضرر.
النظام الإسلامي هو النظام القائم على الشريعة الإسلامية، المؤسسة تفاصيله على وفق قواعدها في الاجتهاد والاستنباط والتفسير والتأويل، وغير المسلمين هم شركاء المسلمين في الوطن منذ كانت للإسلام دولته: دولته الأولى في المدينة المنورة، ودوله التي توالت أيامها بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وحتى يوم الناس هذا.
وثيقة المدينة وـتأسيسها للجماعة السياسية التي كانت الجماعة الدينية في قلبها؛ لا زالت تحتاج إبراز إشارات مهمة لفكرة المواطنة في المجتمع السياسي، والإشارة الى قيم المرجعية والتأسيس ضمن هذه الجماعة تأسيسا على أصول النظام العام والمجال العام والاشتراك في الأمر والشأن العام.. نتناول ذلك في مقال لاحق إن شاء الله.