لم ير بعض أهل اللغة دلالة لهذا اللفظ على مفهومها الحديث؛ إذ إن "واطن" في اللغة تعني مجرد الموافقة، وواطنت فلانا يعني وافقت مراده. لكن آخرين من المعاصرين رأوا إمكانية بناء دلالة مقاربة للمفهوم المعاصر بمعنى المعايشة في وطن واحد؛ من لفظة "المواطنة" المشتقة من الفعل "واطن" لا من الفعل "وطن". فواطن فلان فلانا يعني عاش معه في وطن واحد كما هو الشأن في ساكنه يعني سكن معه في مكان واحد.
والمواطنة بصفتها مصطلحا معاصرا تعريب للفظة "Citizenship" التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية "علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة ،وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق - متبادلة- في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات".
الوطن، المواطن، المواطنة، الوطنية، تعبيرات شائعة يختلط في معناها الوصف بالقيمة، لكنها جميعا تنطوي على إشكاليات أساسية، مصدرها كما أظن هو تطورها خارج الإطار المعرفي العربي، وتطبيقها على نحو متغاير مع حاجات الناس في العصر الجديد.
تُعَدُّ "المواطنة" أحد المفاهيم الرئيسية في الفكر الليبرالي منذ تبلوره في القرن السابع عشر كنسق للأفكار والقيم، تم تطبيقه في الواقع الغربي في المجالين الاقتصادي والسياسي في القرنين التاليين، وما ترتب على ذلك من آثار على الترتيبات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية في القرن العشرين ثم مطلع قرننا هذا.
مفهوم المواطنة قد تطور وتحوّر عبر مسيرة الليبرالية ليتركز حول خيارات الفرد المطلقة وهواه كمرجع للخيارات الحياتية والسياسة اليومية في دوائر العمل، والمجتمع المدني، والمجال العام، ووقت الفراغ، وليصبح "المفهوم المفتاح" الذي لا يمكن فهم الليبرالية وجوهرها من دون الإحاطة بأبعاده المختلفة
وإذا كانت
الليبرالية عند نشأتها قد دارت بشأن فكرة الحرية الفردية والعقلانية، وتقوية مركز الفرد في مجتمع سياسي قام على قواعد عصر النهضة على أبنية اجتماعية حاضنة وقوية، فإن مفهوم المواطنة قد تطور وتحوّر عبر مسيرة الليبرالية ليتركز حول خيارات الفرد المطلقة وهواه كمرجع للخيارات الحياتية والسياسة اليومية في دوائر العمل، والمجتمع المدني، والمجال العام، ووقت الفراغ، وليصبح "المفهوم المفتاح" الذي لا يمكن فهم الليبرالية وجوهرها من دون الإحاطة بأبعاده المختلفة وتطوراته الحادثة المستجدة، إذ يستبطن تصورات الفرد، والجماعة، والرابطة السياسية، ووظيفة الدولة، والعلاقات الإنسانية، والقيم والأخلاق.
وقد شهد هذا المفهوم تغيرات كثيرة في مضمونه واستخدامه ودلالته، فلم يعد فقط يصف العلاقة بين الفرد والدولة في شقها السياسي القانوني كما ساد سابقا، بل تدل القراءة في الأدبيات والدراسات السياسية الحديثة على عودة الاهتمام بمفهوم "المواطنة" في حقل النظرية السياسية بعد أن طغى الاهتمام بدراسة مفهوم "الدولة" مع نهاية الثمانينيات. ويرجع ذلك لعدة عوامل، أبرزها الأزمة التي تتعرض لها فكرة الدولة القومية التي مثلت ركيزة الفكر الليبرالي لفترة طويلة؛ وذلك نتيجة عدة تحولات شهدتها نهاية القرن العشرين:
أولها: تزايد المشكلات العرقية والدينية في أقطار كثيرة من العالم، وتفجر العنف بل والإبادة الدموية، ليس فقط في بلدان لم تنتشر فيها عقيدة الحداثة من بلدان العالم الثالث، بل أيضا في قلب العالم الغربي أو على يد قواه الكبرى، بدءا من الإبادة النازية لجماعات من اليهود، ومرورا بالإبادة النووية في هيروشيما، والإبادة الصربية للمسلمين، والإبادة الأمريكية للعراقيين وللأفغان، والإبادة الجارية للفلسطينيين.
وثانيها: بروز فكرة "العولمة" التي تأسست على التوسع الرأسمالي العابر للحدود وثورة الاتصالات والتكنولوجيا من ناحية أخرى، والحاجة لمراجعة المفهوم الذي قام على تصور الحدود الإقليمية للوطن والجماعة السياسية وسيادة الدولة القومية، وكلها مستويات شهدت تحولا نوعيا.
وعلى صعيد آخر، فإن نمو الاتجاهات الأصولية المسيحية واليمينية المتطرفة في البلدان التي مثلت مهد التجربة الليبرالية قد أدى إلى مراجعة المفهوم والتأكيد على محوريته؛ لمواجهة هذه الأفكار وآثارها في الواقع السياسي والاجتماعي الغربي المعقد مع وجود أقليات عرقية ودينية منها العرب والمسلمون، هذا فضلا عن وصول الفردية كفكرة مثالية لتحقيق حرية وكرامة الفرد إلى منعطف خطير في الواقع الليبرالي، بعد أن أدى التطرف في ممارستها وعكوف الأفراد على ذواتهم ومصالحهم الضيقة إلى تهديد التضامن الاجتماعي الذي يمثل أساس وقاعدة أي مجتمع سياسي، وتراجع الاهتمام بالشأن العام لصالح الشأن الخاص، وتنامى ما يسميه البعض "موت السياسة" وبروز "سياسات الحياة اليومية".
الإشكالية التي تهم العقل العربي والمسلم في هذا الصدد هي أن الفكر الليبرالي لم يؤدِّ إلى تأسيس تجارب ديمقراطية في العالم الغربي فقط، بل يطرح نفسه الآن وبشكل شبه منفرد كبديل للواقع السياسي والفكري في دول العالم الثالث التي تشهد تحولا نحو الديمقراطية
والإشكالية التي تهم العقل العربي والمسلم في هذا الصدد هي أن الفكر الليبرالي لم يؤدِّ إلى تأسيس تجارب ديمقراطية في العالم الغربي فقط، بل يطرح نفسه الآن وبشكل شبه منفرد كبديل للواقع السياسي والفكري في دول العالم الثالث التي تشهد تحولا نحو الديمقراطية، كما في أطروحة "نهاية التاريخ" وإعلان انتصار الليبرالية النهائي لباحث مثل "فوكوياما"، أو كطرف متماسك ومتجانس ومتقدم في مقابل حضارات أخرى (أو أدنى) في أطروحة مثل "صراع الحضارات" لـ"هنتنجتون".
فخيار المواطنة صار مثالية تروج لها الرأسمالية الليبرالية في الدول غير الغربية، ويتم تقديمها كحل لمشكلات الجنوب "على طريق التقدم" الذي يرتهن بتحول الرابطة السياسية داخل مجتمعاتها من رابطة تراحمية عضوية أو قرابية (ريفية أو قَبَلية) إلى رابطة تعاقدية علمانية ومدنية للمواطنة"؛ لذا فإن فهم دلالات "المواطنة" كرابطة تزعم أنها تجبّ روابط الدين والعرقية والأيديولوجية لَهُو أمر يحتاج مزيد تأمل وتقص، وتحريرا وتقويما، واختبارا في الواقع التاريخي بين النجاح والإخفاق.
خلاصة القول أن مفهوم المواطنة هو من المفاهيم الغربية التي سادت المعمورة وانتقلت من ذلك السياق الحضاري الغربي.
لقد أدت التطورات السالفة الذكر التي شهدتها الساحة الدولية في العقود الأخيرة إلى تركيز بعض الدراسات على ظواهر وحوادث كان لها أكبر الأثر في تغيير مفهوم المواطنة ليشمل أبعادا جديدة. فكتابات النظرية السياسية الليبرالية الأولى التي كان مفهوم العقلانية والرشد فيها مرتبطا بالقيم المثالية والفلسفية؛ ما لبثت أن تناولت مفهوم المنفعة بمعنى ذاتي/ نفسي ثم بمعنى اقتصادي/ مادي، وربطت في مجملها بين المفاهيم النظرية السياسية والرؤى الاقتصادية، وهو ما أسماه البعض بالتحول من الديمقراطية الليبرالية إلى الليبرالية الديمقراطية؛ بتقديم الاقتصادي على السياسي وغلبة المادية على الفكر الليبرالي. وما لبث الاقتصاد الليبرالي أن تحول من ليبرالية كلاسيكية تتحفظ على تدخل الدولة لليبرالية جديدة تؤكد على تدخل الدولة من أجل تحقيق الرفاهية في مجالات الأمن الاجتماعي.
تحول مفهوم المواطنة لدلالات نفعية وذاتية فردانية أعمق، كما صار مؤسسا على واقع معقد لا يثمر نتائجه المثالية الأصلية المنشودة بسبب وجود الدولة الطاغي، على الرغم من تحول هذا الوجود نوعيا وتغير وجهه وتجلياته
وهكذا صارت رابطة "المواطنة" منافع وحقوقا مادية محددة يطالب بها المواطن في مجالات الصحة والتعليم؛ تهبط بالحقوق العامة السياسية لتفاصيل منافع مادية مباشرة، أي تم التركيز على الحقوق وليس الواجبات. ومن ناحية أخرى، كان هذا يعني مزيدا من سلطة الدولة في الوقت الذي كانت تحولات الاتصال والعولمة ترشحها فيه للتآكل والذبول، فاستردت دورها في التوزيع السلطوي للقيم (المادية والمعنوية)، وما لبثت أن بدلت هذا الدور شكلا في ظل تنامي الحديث عن الإدارة السياسية (Governance) عبر الحديث عن الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني ورجال الأعمال، رغم أن سلطتها لا تقارن بالطرفين الآخرين، ونفوذها يخترقهما على شتى المستويات.
وعبر تفاعل هذه المعطيات تحول مفهوم المواطنة لدلالات نفعية وذاتية فردانية أعمق، كما صار مؤسسا على واقع معقد لا يثمر نتائجه المثالية الأصلية المنشودة بسبب وجود الدولة الطاغي، على الرغم من تحول هذا الوجود نوعيا وتغير وجهه وتجلياته؛ بما أوحى للبعض بضعفها أو تراجع دورها لصالح آليات السوق العالمية، وهو ظن نتحفظ عليه لكونه غير دقيق وغير مطلق لا يمكن تعميمه.
إن هذا من بعض إشكالات التعاطي مع المواطنة في تجلياتها كمفهوم في سياقاته الغربية.
twitter.com/Saif_abdelfatah