الجمال هو التناسق في الخلق وخلوه من التنافر والنشوز، ولمّا كان الله تعالى هو الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه كان من الطبيعي أن يكون الجمال آيةً دالةً على الله تعالى، إذ لا يعقل أن ينبثق عن إله الجمال والكمال سوى البديع الحسن: "بديع السماوات والأرض"، "الذي أتقن كل شيء خلقه".
وقد دلل الله تعالى في القرآن على نفسه بأن وجّه أنظارنا إلى التأمل في جمال الطبيعة وخلوها من التنافر: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور". أي ما ترى في خلق الرحمن من عيب ونقص، فارجع البصر هل ترى من تشقق وخلل.
يعتني الدين بإيقاظ إحساس الجمال في النفوس، لأن من شأن الجمال أن يصفي روح الإنسان فيهديه إلى خالقه: "والنخل باسقات لها طلع نضيد"، "فأنبتنا به حدائق ذات بهجة"، "ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون"، "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة".
ربما يسأل سائل: ما دام الله تعالى هو الذي أحسن كل شيء خلقه، وهو إله الجمال فكيف وُجد القبح إذاً؟
كيف نفسر أصوات الحمير والكائنات بشعة المظهر، وكيف نفسر القبح الأخلاقي من كراهية وتحاسد وإفساد في الأرض؟
إن المشهد الكليَّ في الكون ينبض بالجمال، وإن كل أرجاء الوجود تمضي على إيقاع موسيقي مهيب، أما القبح الذي نراه فهو بسبب رؤيتنا العلاقات الجزئية بدل الصورة الكلية، لكن حتى ما نراه قبيحاً فهو يؤدي دوراً في صناعة الجمال الكوني. إن القوارض والحشرات الكريهة التي نشمئز من رؤيتها تؤدي صلاتها وتسبيحها في الحفاظ على التوازن الطبيعي "كل قد علم صلاته وتسبيحه".
كذلك فإن الجمال يقتضي معالجة القبح بالقبح كي يعادله، والقرآن يقول: "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون"..
إن هناك أعمالاً لا يحلها الله ولا يقبل المؤمنون فعلها، لكنها ضرورية لتعديل اختلال التوازن في الوجود، فيسخر الله الظالمين بعضهم على بعض كي يعيدوا تصحيح التوازن وهم لا يشعرون.
فلو تأملنا فعل الظالم معزولاً لرأيناه فعلاً قبيحاً منكراً، لكن لو وضعناه في السياق الكوني لرأينا الصورة الكلية عادلةً حكيمةً، وكذلك القبح الجزئي لا نفهمه إلا إن رأيناه معادلاً لقبح مضاد فيتعاركان حتى يعتدلا ويحافظا على جمال الوجود: "الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات".
بالإضافة إلى خصوصية مثال الزوج والزوجة في هذه الآية، فإنها تتضمن معنىً عامّاً وجودياً، وهو أن النيات والأفكار والكلمات والأفعال الطيبة تجذب شبيهاتها، وكذلك النيات والأفكار والكلمات والأفعال الخبيثة.
إن ذوي النفوس الجميلة يتذوقون جمال الوجود فينعمون بجنة الرضوان والسلام، بينما الذين انطوت نفوسهم على قبح وخبث فإنهم يرون كل ما حولهم مثيرا للبغض والنفور، وما ذلك إلا لأنهم يرون الحياة بمرايا نفوسهم وطويات قلوبهم.
"ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين".
حين نفخ الله في الإنسان من روحه فقد أودع في فطرته حب الجمال، فيطرب قلب الإنسان للمرأى الجميل والصوت الجميل والبيان الجميل والقصة الجميلة، وربما تذرف دموع أحدنا وهو يستمع لحناً موسيقياً أو يقرأ روايةً أو يشاهد فيلماً مؤثراً، وما تلك الدموع إلا لملامسة الفن الجميل لأعماقنا الدفينة، ولحظات التأثر تلك هي لحظات اتصال روح الإنسان بمصدره الكوني وتخففه من علائق الأرض، فالفن ينتمي إلى السماء وليس إلى الأرض.
إن كل مظاهر الجمال التي نراها من حولنا، سواءً كان مشهد الغروب أو زرقة السماء أو بهجة الربيع أو لحنا موسيقيا أو وجه حسناء.. كل هذه تجليات من أثر الجمال الإلهي، فالإنسان في جوهر عشقه للجمال إنما يبحث عن الله بفطرته..
لكن ابتلاء الإنسان مع الجمال أنه لا يكتمل في هذه الدنيا، فلحظة الغروب تمضي، والفتاة الحسناء تكبر في العمر فيتجعد وجهها، وتكرار النظر أو السماع إلى ذات القطعة الجميلة يبعث على السأم والملل، فهذه الحياة الدنيا قد طبعت على الزوال والفناء، وما كان مصدر بهجة للمرء فإنه يصير مصدر حزن وعذاب حين يفارقه..
لذلك فإن مقتضى الحكمة أن يخشع قلب الإنسان للجمال ثم يتجاوزه قاصدا بلوغ الجمال المطلق، لأن التوقف في أي مرحلة والركون يطفئ الروح المودعة في الشيء الجميل ويحوله إلى صنم..
"لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن"..
إن فتنة الشرك تأتي من كون المخلوقات تحمل أثراً من خالقها، فيتوقف أكثر الناس عند هذه المخلوقات خاضعين للإلهي فيها من جلال وجمال، لكن المؤمن الحقيقي يبقي يقظته الروحية والفكرية ولا يستعبده الجمال الجزئي، بل يظل كادحاً إلى ربه حيث المنتهى..
حين ترى مشهد الغروب وقت الأصيل والنخل الباسقات والبحر والسماء تشعر بحنين غريب مجهول، حتى يكاد المرء لوهلة ما أن يسجد لهذا المنظر الساحر، هنا تأتي فكرة التجاوز، أن يذكرك هذا الجمال بالجمال الأكبر، بالجمال الكامل، فتقول: سبحان الله العظيم. ولعلها ليست مصادفةً أن أمرنا بالتسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ففي هذه الأوقات يتجلى سحر الطبيعة وتخلب لبك بجمالها، فلا بد من يقظة روحية تغذي الشوق إلى الجمال الأكبر. وكذلك التسبيح كلما رأى الإنسان منظرا جميلا: "ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله". إن هذا الموقف ليس قطيعة مع الجمال، بل تحرير للنفس من التعلق الذي سيؤدي بها إلى الحزن والعذاب، وتغذية الشوق إلى الكامل المطلق..
"أينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله".. إننا نستطيع أن نصل إلى الله من أي طريق نسلكها، وليس ثمة إثم في الشعور الفطري الإنساني، بل إن هذا الشعور الفطري وتذوق الإنسان للجمال في الموسيقى والطبيعة دلالة على بحث الإنسان عن الله. إننا نستطيع أن نصل إلى الله عبر حب الجمال، ونستطيع أن نتبع في طريق وصولنا إلى الله القاعدة الإبراهيمية: "لا أحب الآفلين".
أقبل أن يكون الجمال إلهيا لو لم يكن آفلاً، لكن لما كنت أبحث عن الكمال والجمال فلا بد من جمال نهائي أبدي خالد، وكل مظاهر الجمال الجزئية أتأملها وأتذوقها وأشحن بها روحي ثم أتجاوزها قاصدا ذلك الجمال المطلق النهائي الذي لا يأفل ولا يفنى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة".
إن من تتمة الجمال أن يكون باقياً غير فانٍ، فالفناء نقيض للجمال ومنغص عليه: "لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن"..
إن قيمة "الجمال" مع كل هذا البيان القرآني، ومع أنها
الفطرة الطبيعية في الإنسان إلا أنها لا تزال ضعيفة الحضور في النسخة الشائعة من التدين. ولعل ظهور المدرسة السلفية على المدرسة الصوفية تاريخيا هو أحد أسباب هذا الضعف، فالمدرسة السلفية تقيم بناءها على مفاهيم مثل الطاعة والتكليف الشرعي، وافتراض أن الحياة آثمة ما لم يكن هناك تأصيل شرعي يجيزها، بينما الروح الصوفية الحقيقية ترى الإيمان تجربة وجدانية داخلية أساسها التذوق والحب والوجدان..
إن إشاعة الجمال بين الناس هو من أبواب الدعوة إلى الله، لأن المرء إذا امتلأ بالخيال الجميل ورق قلبه كان إلى
الفضيلة أقرب، ونفرت نفسه من النقائص والرذائل واشتاقت روحه إلى التسامي. وإن تذكر الله كما أنه يتحقق في موعظة المسجد، فإنه يتحقق كذلك بتذوق الجمال فينطق القلب من أعماقه: "سبحان ربي العظيم ذي الجلال والجمال".
twitter.com/aburtema