في
العالم العربي دوما هناك مفكرون ومثقفون لبلاط الحاكم والسلطان، حتى لو غدت العلاقة في فترات معينة بينهم غامضة للوهلة الأولى، لكن كثيرا منهم ينجذبون بشكل مغناطيسي نحو السلطة، إما للدفاع عنها أو للزحف نحوها، فيما النفوس تهفو إلى مديح كرسي الحاكم والعرش ومديح عسكره وأدوات قمعه وجنده وعسسه، وتبرير مجازره وتآمره، في أكثر الأوقات حاجة لمواقف هؤلاء.
يُنظر إليهم بترقب لكل موقف وحركة، عند الأحداث التاريخية المهمة، وينظر إليهم الحاكم كتوابع وأبواق مكملة للمشهد المطلوب في زوبعة الأحداث الجديدة الطارئة.
فسخ هجين مع التاريخ
وغالبا ما كانت علاقة المثقف العربي بالسياسي تبدو ظاهريا مشحونة بالتوتر وتنزع نحو المواجهة، لأنهما ينتميان لزمنين مختلفين، فالمثقف يعيش زمن المستقبل والحلم، والسياسي يعيش "الواقع" المنفجر على احتمالات التناقض بين زمني ما أنجز وما يُحلم به. وفي العاصفة العربية الممتدة منذ عشرة أعوام، اعتاد المفكرون والمثقفون في بلاط الحاكم العربي على تصفح الواقع، والتعامل مع مآسي مجتمعاتهم بمواقف جبانة وخائنة، ولم يترددوا في مناسبات عدة أن يصبحوا وكلاء للطاغية ومن ثم للمحتل في مرحلة التحالف معه.
يقذف مثقفو الحاكم والطاغية أنفسهم بسرعة خارج حدودهم القديمة التي تشرنقوا بها، ويحاولون بأقصى سرعة دخول مرحلة الذوبان، أمام التصهين القادر على هضم ثقافة تُقدم نفسها دونية في كل شيء، من التاريخ والحضارة والسياسة، إلى الفن والأدب الممجد لاستعمار قام على أنقاض الأبناء والأجداد. ودون ارتباك وحيرة وتردد، يُستبدل مشروع "المثقف" التنويري ببديل "مُنفتح" على مستعمر ثقافته وحضارته التي يزدري منها ويحط منها ومن تاريخه.
ومنذ قرابة عقد حافل بسلسة من الأحداث والانهيارات التي هزت العالم العربي، وقلبت وجه الاستراتيجيات السياسية والثقافية والاجتماعية، يُصر القاذفون بأنفسهم على تقديم بهرجة وصخب باذخ لإنجاز الحاكم "النصر على المؤامرة، والسلام"، غير مدركين موقعهم بعدُ داخل هذا العالم إلا ضمن حدود قصر الطاغية ومستوطنة المحتل.
التاريخ كله في المزبلة
أي سلام وأي ثقافة يُروَج لهما في مجتمعات عاش العديد من أجيالها في ظل أنظمة ريعية استبدادية؛ عوّدت الإنسان الفرد على الخضوع والانتظار والاتكال على قدرية أبد الحاكم، الذي قتل روح الإنسان وقهره.. وأي ثقافة تلك التي بات يتزعمها "غابي أشكنازي" و"أفيخاي أدرعي"، لتفرد له مساحة في الإعلام المعبرن لتقديم أساطير تلمودية في يوم "النصر الصهيوني"، بالتوقيع على مسح "خرافة الحق
الفلسطيني" بعلو صوت المزامير التلمودية في مدن عربية.
ينقل مثقف السلطان إعجابه على الهواء بكلمات بنيامين نتنياهو عن "القوة التي تجلب السلام"، وبقيت نوبة المهللين بالإنجاز التاريخي للتحالف مع الصهيوني تعزف معزوفتها الناشزة بالهجوم على الحقوق الفلسطينية، والسخرية منها ومن ثوابتها ومقدساتها، مرددة إفلاسها عن دعم أصحاب الحق بسبب "ضَعف" قيادتهم. الدعوة لرمي كل الماضي العربي والتاريخ في "المزبلة" أمام حديقة المستقبل الصهيوني والدعوة لأسرلة التاريخ، ومصادرة الحق في صد الهجمة الاستعمارية، هي تعبير عن أحداث فسخ هجين مع التاريخ.
تخصيب العربي بالهزيمة
تشويه الطاغية والمستبد والمحتل لثقافة العربي وتاريخه، في زمن سحق الثورات وانفلات التصهين بكل الاتجاهات، الهدف منه وسم الإنسان العربي بالعديد من النعوت التي أطلقها تحالف أعدائه عليه، من الاستسلام والهزيمة أمام المحتل، إلى التسليم بأبدية وقدرة الطاغية، والحديث عن فلسطين والمقدسات والتاريخ.. والهوية الوطنية والعروبة والإسلام والحرية والانعتاق من المحتل؛ يمكن تعويض كل ذلك في ظل مشروع هيمنة المحتل على الطاغية وهيمنة الأخير على المجتمع؛ بتسليط مرجعية "فكرية حضارية" واحدة قائمة على مفهوم التعايش مع المحتل والطاغية، وهو ما نشهده منذ عقد مع اشتداد الهجمة على حرية الإنسان العربي.
بمرارة قاتمة، يستخلص المرء من هذا الفراغ المليء بالانحطاط والغزو الصهيوني أن ثقافة جديدة تُكتسب من قاموس التصهين وتفضح رداءة الواقع، بينما الأيديولوجيات التلمودية الغارقة في الدماء والصاعدة على دمار؛ تنزلق نحو مهازل الإعجاب بإنجاز تيودر هرتزل، أو تمويل بقية مشاريع المحتل للسيطرة على الأرض.
كل ذلك يدعونا للتحفز لمواجهة المأزق الجديد الذي أفرزه سلوك المستبد والطاغية وتخاذل المثقف؛ الذي يقدم ثقافة "نطع ليفنه" بعبقرية عربية معبرنة ومعجبة بصهيوينة هرتزل، ومنتشية لسماع مزامير تلمودية وعزف هتيكفا على ضفاف التفكك الذاتي العربي.
twitter.com/nizar_sahli