مرة أخرى شهدنا يوماً أسوداً في البيت الأبيض عبر توقيع اتفاقيات سلام برعاية أمريكية بين
إسرائيل والإمارات والبحرين. المشهد تم اختياره بعناية برموزه كلها، بما فيها المكان والزمان، بينما خلا المضمون من أي إشارة جدية إلى القضية
الفلسطينية. وبدا المشهد معقداً ومركّباً في ما يتعلق بمحاولة تجاهل القضية؛ التي تظل حاضرة رغم الجهد الكبير المبذول من أجل تجاوزها وطيّها.
تم اختيار التاريخ بعناية من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليتزامن مع ذكرى توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة العبرية في المكان نفسه قبل 27 عاماً (أيلول/ سبتمبر 1993). سعى نتنياهو لاستحضار أوسلو من أجل المقارنة مع الاتفاقيات الراهنة، ومن ثم شطبها (على علاتها) فيما بعد. والرسالة واضحة
لجمهوره اليميني المتطرّف وحتى للجمهور الإسرائيلي بشكل عام، ومفادها أنه لا يوقّع اتفاقيات قائمة على معادلة الأرض مقابل السلام، تتضمن الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وإنما وفق قاعدة السلام مقابل السلام القائمة أساساً على قوة الدولة العبرية، كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي حرفياً في كلمته بحفل التوقيع.
لا يمكن الجدال طبعاً في حقيقة أن اتفاقية أوسلو مثّلت القاعدة لكل الاتفاقيات العربية الإسرائيلية اللاحقة له، بما فيها الاتفاقيات
الإماراتية والبحرينية، والمفارقة أنه يجري العمل الآن على التخلّص من القاعدة نفسها، حيث لا لزوم لها، بالضبط كالتخلص من السلّم أو وسيلة المواصلات بعد الوصول إلى الهدف المحدد، إثر كسر أوسلو مبدأ العداء لإسرائيل، وتكريس قاعدة السلام كخيار استراتيجي عربي معها، وهو أمر عجزت عنه حتى اتفاقية كامب ديفيد 1979 بين مصر وإسرائيل.
الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب من جهته لم يمانع التوقيت الذي اختاره نتنياهو ليقينه بأنه يصب في صالحه طالما أنه يجري على أعتاب الانتخابات الأمريكية، من أجل حصد أصوات القاعدة اليمينية الإنجيلية الصهيونية، كما تباهى ترامب بنجاح سياسته الخارجية، زاعماً أنه نجح في تحقيق ما عجز عنه أسلافه خلال ثلاثة عقود عبر عقد اتفاقيات سلام جديدة بين العرب وإسرائيل، دون دفع هذه الأخيرة أي ثمن، بل على العكس، فإن هذه الاتفاقيات تتجاهل القضية الفلسطينية وتعترف بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية (الذي أقرّت به واشنطن أساساً)، وتدّعي السعي لتحقيق السلام والاستقرار والتعاون في المنطقة دون حلّ القضية المركزية للعرب، وهي القاعدة التي عملت عليها كافة الإدارات الأمريكية السابقة خلال نصف قرن، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية.
وصلت الغطرسة بترامب الذي لا يفهم (عن حق طبعاً) لماذا تم منح جائزة نوبل للسلام لسلفه باراك أوباما، إلى حد الاعتقاد أنه بات جديراً بالجائزة بعد رعايته اتفاقيات السلام الجديدة، حتى مع يقينه أنها لم ولن تحلّ جذر المشكلة، بل على العكس تبقي النار تحت الرماد.
هذا في المنهج أو الأساس الفكري السياسي لمشهد البيت الأبيض الثلاثاء الماضي. أما في المضمون، فقد تم التوقيع على اتفاقيتي سلام بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، إضافة إلى ما يسمى إعلان أبراهام الذي صدر في آب/ أغسطس عند الكشف عن
التطبيع/ التحالف بين الإمارات وإسرائيل، وبدا الإعلان وكأنه القاعدة لاتفاقيات التطبيع الراهنة واللاحقة.
اتفاقية السلام الإسرائيلية الإماراتية جاءت موسعة إلى حد ما مع ملاحق تفصيلية، ما يؤكد أننا بصدد تحالف وليس مجرد تطبيع تقليدي بين دولتين لم تكونا في حالة حرب أصلاً.
الاتفاقية غطت مجالات واسعة جداً للتعاون الثنائي سياسياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً وصحياً وتعليمياً وزراعياً، وحتى بحرياً وجوياً وفضائياً، بينما سيتم العمل على بروتوكول أمني منفصل فيما بعد.
بدا لافتاً وجود بُعد إقليمي للاتفاقية، يتحدث عن التعاون لحل مشاكل المنطقة، مع استخدام مصطلحات حركية خادعة تتحدث عن إرساء السلام والأمن والاستقرار فيها.
وعلى عكس ما يتردد، فإن البُعد الإقليمي للاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية لا يستهدف إيران، وإنما تركيا والحركات والأحزاب العربية الثورية، في سياق العمل على إعادة إنتاج أنظمة الاستبداد العربية التي أسقطتها الثورات الأصيلة. هذا يفسّر طبعاً ترحيب أنظمة الفلول الجدد والثورات المضادة بها (نظام السيسي نموذجاً)، وصمت نظام بشار الأسد الذي يدّعي المقاومة والتمحور في محور الممانعة المستهدف من الاتفاقية، كما تزعم الأبواق الإعلامية المساندة له ولنظامه.
أما الاتفاقية الإسرائيلية البحرينية فجاءت على هيئة إعلان مبادئ مختصر، كون التوافق على التطبيع بين الجانبين جرى قبل أيام فقط، وسيتم العمل على التفاصيل خلال الأسابيع القادمة، وستكون شبيهة بالاتفاقية مع الإمارات دون بُعد إقليمي، ولكن مع تعاون ثنائي في مجالات اقتصادية وتكنولوجية وحتى أمنية عديدة، وبما يتجاوز بالتأكيد التطبيع التقليدي بين بلدين متحاربين ،أو غير متحاربين للدقة.
إلى ذلك جرى التوقيع برعاية أمريكية على إعلان أبراهام، الذي تم الكشف عنه في آب/ أغسطس، وهو يمثل القاعدة أو بالأحرى الحيلة التي يتم بناء الاتفاقيات والتطبيع عليها، ويتعاطى مع إسرائيل كدول عادية غير محتلة ولا معتدية، عوضاً عن حديثه عن التسامح والتعاون، مع إسباغ طابع ديني على الاتفاقيات والتطبيع بشكل عام بين أتباع الديانات السماوية الثلاث.
رغم الضغط الأمريكي لم يحضر حفل التوقيع في البيت الأبيض سوى سفيري السودان وعُمان، في إشارة ربما إلى الدولة التالية في التطبيع. ولا بد من التمييز هنا بين الحالتين السودانية والعُمانية، حيث مثلت مشاركة السفير "الرمزية" أقصى ما أمكن للقيادة السودانية تقديمه (حتى الآن) بعدما رفضت التواصل مع نتنياهو على هامش زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للخرطوم أوائل أيلول/ سبتمبر الجاري، وبالتالي
الإعلان رسمياً عن التطبيع مقابل رفع اسم البلد من لائحة الإرهاب الأمريكية.
أما عُمان فتبدو مرشحة طبعاً للالتحاق بالمسيرة التطبيعية، لكن بعلاقات تقليدية دون الوصول إلى حد التحالف أو فرض التطبيع بالقوة على الشارع الرافض، كما تفعل أبو ظبي والمنامة.
وفي ما يخص السعودية فتبدو وكأنها تقود المسيرة من الخلف، حيث ما كان باستطاعة البحرين ولا حتى الإمارات نفسها المضي قدماً فيها دون موافقة وضوء أخضر أو حتى برتقالي سعودي، غير أن انضمام الرياض وانخراطها في المسيرة يواجه
عقبات داخلية تتعلق بوجود مزاج شعبي رافض للتطبيع، يخشى الحاكم الفعلي محمد بن سلمان من انعكاساته السلبية على جهوده لتولّي الحكم رسمياً خلفاً لأبيه وفي أقرب وقت ممكن.
مع ذلك، حتى وهي تقود من الخلف، تبدو الرياض نفسها منقادة خلف حاكم أبو ظبي محمد بن زايد وسياساته الكارثية.
في كل الأحوال لن تستطيع الاتفاقيات الأخيرة شطب القضية الفلسطينية أو إزاحتها عن جدول الأعمال الإقليمي، ولعل توقيع ثلاثة ملايين على ميثاق فلسطين في أيام قليلة يثبت مركزيتها في العقل العربي الجمعي، كما رفض هذا الأخير بعناد وتصميم للتطبيع والسعي لتحقيق مكاسب فئوية على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
عموماً، لا شيء يعبر عن الواقع مثل
حيرة المسؤول الإماراتي الذي لم يعرف أين وعلى ماذا يوقّع، بينما لم يعرف الوفد البحريني طبيعة الوثيقة التي سيتم التوقيع عليها، إلا صبيحة يوم الاحتفال. أما ترامب ونتنياهو فسارا معاً
وتركا المطبعين خلفهما، في مشهد يكاد يختصر القصة كلها.