هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أعادت جريمة ذبح تلميذ مسلم لمدرّس فرنسي الأسبوع الماضي، على خلفية توزيع هذا الأخير لصور كاريكاتير صحيفة "شارلي إبدو Charlie Hebdo"، مسيئة للرّسول محمّد صلوات الله عليه، على تلاميذ فصل دراسي بالعاصمة باريس، ومن قبلها جريمة نيوزلندا، التي اقترفها شاب مسيحي في حق 50 مُصلّيا بمسجد كرايستشرش، إلى الأذهان جرائم إرهابية سابقة اقترفها مسلمون ومسيحيون على مدار العقود الثلاثة الماضية، يُرجعها الدكتور مصدق الجليدي، باحث أكاديمي بمركز البحوث والدّراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة وخبير دولي في التّربية، في دراسة له بعنوان "الخلفيات التاريخية والأسس الفلسفية للتجاذب بين أوروبا والإسلام، إلى إفراط "إسلاموي" في عقيدة الحياة لدى من أسماهم بـ"سُذّج" المسلمين في مقابل خوف "مسيحاني" هوسي إلى درجة ظهور "الإسلاموفوبيا"، التي حلّت محلّ العداء للسّامية في نسختها اليهوديّة.
وفيما تتزايد موجات الاستنكار الواسعة لهذا السلوك الدّيني المتعصّب ولمنظّريه المنافي لقيم التعايش الإنساني، فإنه لا يختلف اثنان في تحميل مسؤولية الجرائم المسيحانيّة المرتكبة على الجاليات المسلمة في أوروبا إلى حمّى العداء للإسلام التي باتت منتشرة في فضاء الإعلام الأوروبي ودوائر صنع القرار الرسمي وحفنة متعصّبة من الفنانين الغربيين، في مقابل غلبة الخطاب "الإسلاموي" المتشدد، عنوانا بارزا لأزمة الخطاب الإسلامي الحديث، على وجه الخصوص قصور فقه الأقليات المسلمة على الحد من تنامي موجات الكراهية في الأوساط الغربية.
تواصل العلاقة التاريخية الملتبسة بين أوروبا والإسلام، والتي تختزلها علمانية فرنسا اليعقوبية المتوترة، علاقة عدائية تمتزج فيها الكراهية بالانبهار على حدّ وصف محمد أركون، وغلبة ما يسميها إدوارد سعيد بـ"منظومة التخييلات الإيديولوجيّة التي لم تنطلق فقط من الهيمنة والمواجهة، بل ومن منطلق الكراهية الثقافية"، إلى الحد الذي أعرب فيه وزير الداخلية الفرنسي في تصريح تلفزيوني عقب جريمة باريس عن قلقه لرؤيته الكسكسي والهريسة تباع في كبرى المطاعم الفرنسية، بالرغم من الجهود البيّنة لفرق البحث الإسلامي المسيحي منذ عقود أربعة (منذ سنة 1977)، وتفشي الخطاب "الإسلاموي" المبرر لما يسميه الدكتور علي صالح المولى بـ"ثقافة النحر وحرفة قطع الرؤوس"، بالرغم من جهود خطابات التعايش وفقه الأقليات، يجعل من الأهمية بمكان محاورة الدكتور أحميدة النيفر، أستاذ وباحث بجامعة الزيتونة التونسية، والذي عُرف بانخراطه مند ثمانينيات القرن الماضي في تنشيط الحوار الإسلامي المسيحي.
شغل احميدة النيفر منصب "الرئيس المسلم لفريق البحث الإسلامي المسيحي (Gric)" لدورتين بعشر سنوات (تأسس عام 1977 على يد جامعيين مسلمين ومسيحيين" وهو الرئيس الحالي لـ"رابطة تونس للثقافة والتعدّد". ويعدّ الدكتور أحميدة النيفر من مؤسّسي الحركة الإسلامية في تونس، سبعينيات القرن الماضي إلى جانب الأستاذين عبد الفتّاح مورو وراشد الغنوشي، وهو مؤسس المجلة الفكرية "15 ـ 21" سنة 1982 ومؤسس "منتدى الجاحظ" أوائل تسعينيات القرن الماضي. وحاليّا يشغل احميدة النيفر منصب "رئيس قسم العلوم الإسلامية بـ"المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون" (مؤسسة بيت الحكمة).
الإعلامي التونسي الحسين بن عمر التقى الدكتور احميدة النيفر بمكتبه المنزلي بضاحية باردو غربي العاصمة تونس وأجرى معه الحوار التالي خصيصا لـ "عربي21"، حول أفق الحوار المسيحي الإسلامي في ظلّ غياب التكافؤ الحضاري بين الشرق والغرب وتقييمه لأثر السياسات والمراكز الثقافية المتعالية في تواصل حمّى الكراهية للإسلام في الغرب.
س ـ في ظلّ تواتر حالات الاستفزاز الفجة لمشاعر المسلمين والتضييق على حقهم في ممارسة طقوسهم الدينية متبوعة بحالات عنف وتصفية جسدية، آخرها تأكيد خطاب ماكرون على مواصلة استفزاز مشاعر المسلمين من خلال نشر صور كاريكاتير "شارلي إبدو"، ألا يجسّم هذا الازدراء ما كان أسماه تشارلز ساندرز بيرس بـ"صوفيّة الشرق الوحشيّة" في إطار تحقيره لعقائد المسلمين وطقوسهم؟
ـ على جلل المناكفات وحالات العنف المتبادل بين الشخوص أو الجماعات التي تدّعي نسبتها إلى الإسلام من جهة وبين جماعات اليمين المسيحي المتطرّف في أوروبا من جهة ثانية، فإنّه يجدر بنا فهم حالة التوتر المركّب والمتبادل بين الطرف الغربي، على وجه الخصوص الغربي الفرنسي اليميني المتطرف، وبين الجماعات الدينية الإسلامية التي يمتحنها الواقع على مدى قدرتها على التعايش مع الآخر المختلف في الدين والثقافة، خاصّة وأنّها تعيش بين ظهرانيه.
فمع إدانتنا لكلّ سلوكيّات العنف والإرهاب التي طالت الأبرياء في أوروبا جرّاء عنف الجماعات الإسلامية المتطرفة أو من يناصر أفكارها، فإن تفسيرنا لحالة الهوس الغربي من انتشار طقوس التديّن الإسلامي بأوروبا مردّه عدم قبول الجماعات اليمينية المسيحيّة المتطرفة، وإلى حدّ كبير الساسة الغربيون، بفكرة التعدد على أراضيها.
ففي الوقت الذي يبرر فيه السّاسة الغربيون تصدير أفكارهم الاستعماريّة بالقوة في كلّ من إفريقيا وآسيا وأمريكا، فإنهم لم يقبلوا بعد بفكرة التعايش المشترك مع المسلمين الذين يبقى من حقهم ممارسة طقوسهم الدينيّة. لم يفهم الغرب بعد ولم يقبل أنّ للإسلام نزعة عالمية (أرض الله واسعة... والعالم والعالمين...) ولا تحكمه محلية مغلقة. الغرب يرفض أن يكون لغيره نفس الحضور العالمي أو حتى التطلّع إلى ذلك. كيف يبيح الغرب لنفسه إنشاء مراكز ثقافية ومراكز نفوذ وهندسة المجتمع على طريقته واستجلاب الشباب المتعلم من بلدان المسلمين ودول أفريقيا وآسيا ثم يمنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية التي يرتضونها؟.
س ـ هل سبق لديار الإسلام أن مرت بفترة الانغلاق التي يعيشها الغرب المسيحي اليوم؟
ـ تاريخيا لم تمرّ على المسلمين ودولهم فترة الانغلاق سوى قرن واحد من الزمان تقريبا. كان ذلك بين القرن 18 والقرن 19 ميلاديّة. فقد دامت ذهنيّة دار الإسلام ودار الكفر (أو الحرب) ودار المعاهدين قرنا واحدا قبل أن تتوقّف مع انبعاث حركة الإصلاح التي أعادت الإسلام إلى سياق آخر.
س ـ على وحشيّة جريمة ذبح تلميذ لأستاذه في باريس، فإنّ كثيرين استنكروا على ماكرون توظيفه المبالغ فيه لسلوكيات العنف المرضيّة، فإلى أي حدّ بالغ ماكرون في ذلك؟
ـ صحيح، هناك توظيف سياسي للسلوكيات المرضية في عديد الدول الأوروبية. يتمّ توظيف هذه الجرائم المدانة سياسيا على المستوى الأوروبي لتبرير منع انضمام تركيا إلى مجموعة الاتحاد الأوروبي مثلا، بالرغم من كلّ التنازلات التي أبدتها أنقرة تحت وطأة مطالب الاتحاد الأوروبي. تنازل الأتراك في قضيّة الأكراد وفي مسألة منع الإعدام ولكن بقي الفيتو الفرنسي، ذو الخلفية الاستعمارية، مرفوعا وذلك خوفا من تغيّر المعادلة الحضاريّة كما يدّعون أو يتوهّمون.
مع إدانتنا لكلّ سلوكيّات العنف والإرهاب التي طالت الأبرياء في أوروبا جرّاء عنف الجماعات الإسلامية المتطرفة أو من يناصر أفكارها، فإن تفسيرنا لحالة الهوس الغربي من انتشار طقوس التديّن الإسلامي بأوروبا مردّه عدم قبول الجماعات اليمينية المسيحيّة المتطرفة، وإلى حدّ كبير الساسة الغربيون، بفكرة التعدد على أراضيها.
ـ هناك تعثر وضبابية، ولهما تبعات عملية فيما يتعلق بعلاقة المسلم بعصره وبالمختلف عنه. لا يجب أن ننكر أن ساستنا، شبابنا على وجه الخصوص، يعيشون نقمة على العصر. وتتجلّى هذه النقمة في الفرار المستمر إلى التراث لاستحضار رموزه. وهذا ما يعكس في واقع الأمر عجزا على خلق رموز جديدة. هذا طبعا دون الاستنقاص من أهمية الشحن الحضاري واستلهام العبر من قادة المسلمين الأوائل.
بالرغم من وجود محاولات جدية في العالم الإسلامي في كلّ من اندونيسيا وإيران وتركيا، إلاّ أنّ هذه المحاولات لم تشكل بعد نظرية معاصرة تضع أسس حياة إسلامية تواكب العصر وتفعل فيه وتدرك أهمية الآخر في إثراء ذاتها.
س ـ بماذا تفسّر هذا العجز المتواصل عن تحويل هذه المحاولات الجدّية إلى واقع مؤسسي ونظرية متكاملة؟ هل هي أزمة الفكرة أم عائق الإمكانات والآليات؟
ـ إنّ المطلوب اليوم هو عمل مؤسساتي تتفاعل فيه المعارف المختلفة والمناهج الجديدة. ولا يجب أن يقتصر العمل المؤسساتي إن وجد على معارف فقهية وعقائدية. بل يجب معاضدته بمعارف نفسية واجتماعية وفلسفية. إنّ العامة لا تفهم ولن تفهم ولن تنخرط في المشروع الحضاري المنشود إلاّ بتوفر أفكار مُركّبة ومتكاملة وعندها صلة مباشرة بالمعاش اليومي. فالناس تبحث عن بدائل عملية، وعليه لا بدّ من تشبيك المعارف المختلفة والعصرية منها حتى ننجح في صياغة حلول يستفيد منها الجمهور الواسع وتكون حائلا أمام انتشار خطاب الكراهية والجهل والعداوة للآخر المختلف في الدّين والثقافة الذي يقود حتما إلى تفكك المؤسسات. الفاعلية تتطلب من أصحاب المشروع الحضاري بناء مؤسسات فاعلة ومتفاعلة ولها قدرة على تقديم حلول عملية، لا مجرّد خطب عصماء.
س ـ لقد اعتبر محمد الطالبي، من أبرز المنخرطين في الحوار الإسلامي المسيحي والمؤسسين له، في كتابه "ليطمئنّ قلبي"، وبعد تجربة عقود من الحوار الإسلامي المسيحي، أنّه "لا فائدة ترجى من الحوار مع المسيحيين لأنهم غير جادّين ولا يتسمون بالنزاهة". هل وجدتم غير ما وجد الطالبي في تجربتكم المعتبرة في الحوار الإسلامي المسيحي؟
ـ برأيي أنّ النتيجة التي انتهى الراحل محمد الطالبي والتي ذكرها في مؤلفه "ليطمئنّ قلبي"، إنّما تعكس فقط الوضع الذي انتهت إليه الكنيسة في عهد البابا بندكت 16، الذي خلف البابا يوحنا بولس الثاني (1978 ـ 2005). فقد اشتغل الباب يوحنا على ما انتهى إليه المجمع الكنسي العالمي، والذي سمي بالفاتيكان 2 والذي نظر في سؤال: كيف يمكن للمسيحية أن تكون معاصرة لزمانها؟ وعلى وجه الخصوص فقد اهتمّ هذا المجمّع الكنسي على تطوير علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالمسلمين. وقد أثمر هذا الجهد فتح حوار جدي بين المسلمين والكنيسة الكاثوليكية وجزء من الكنيسة البروتستانتية.
تاريخنا في تركيا وشمال افريقيا والأندلس حافل بقصص التعايش الممتد في الزمان والمكان. والتوتر يتغذى من تواصل السياسات الاستعمارية، التي تتغذى بدورها من أحداث العنف والعنصرية والصراع الديني.
فقد لعبت شخصية يوحنا بولس دورا مهمّا في ذلك، خاصّة وأنّه ساهم في انتفاضة أوروبا الشرقية ضدّ النظام الشيوعي السوفياتي وساهم في إسقاط النظام الشيوعي في بولونيا. إلا أنه على خلاف يوحنا بولس، فقد مثّل قدوم بندكت انتكاسة حقيقية لكلّ الجهود السالفة. فقد نادى بندكت بما أسماه "تحصين المسيحية في أراضيها". هذا المنحى الجديد أوصل الحوار بين المسلمين والمسيحيين إلى طريق مسدود للأسف وهذا برأيي هو السبب الذي جعل الراحل محمد الطالبي يصرّح بموقفه السلبي من الحوار بالرغم من كل الجهود والسنين التي اجتهد فيها على تقريب الشقة بين المسلمين والمسيحيين.
س ـ لماذا بقي الحوار الإسلامي المسيحي يراوح مكانه ولا يفارق المبحث الثقافي؟
ـ في الحقيقة هذا التقييم يبقى نسبيّا وغير دقيق. فقد ساهم الحوار الاسلامي المسيحي في رفع عديد الحدود والحجب في أوروبا. فقد تغيّرت نظرة المسيحيين تجاه المسلمين ولكن ما نشاهده اليوم من نظرة استعلاء فهي أحكام السياسة ومصالحها الآنية والبعيدة لا غير. ومن الطبيعي أن لا ترضي عملية التفاهم والتشابك بين أتباع الديانتين مصالح الساسة وأجنداتها. وخير دليل على ذلك ما ذكرناه من توظيف سمج للرئيس الفرنسي ماكرون لعمليات العنف المدانة من الجميع. وتلك هي السياسة التي تعمل على توظيف الأعمال الإجرامية لاسترضاء اليمين المتطرف.
س ـ إلى أيّ حد تراهن على قدرة فريق الحوار الاسلامي المسيحي على وقف موجة التعصب والتطرف والعنف من الجانبين؟
ـ من الجانب الإسلامي علينا تحديات حقيقية علينا الاعتراف بها. ففي تونس مثلا التي كانت تزخر بمشاريع إصلاح في الفكر الديني والخطاب الذي يتلوه، بدءا من المصلح بيرم الأول، مرورا بخير الدين التونسي وسالم بو حاجب والشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ومحمد النخلي وعثمان بلخوجة وغيرهم كثير.، فقد ساهمت السياسة في وقف مسار الإصلاح. فقد استأثرت دولة بورقيبة بفكرة الإصلاح وجعلته محتكرا في ما هو سياسي وفرضت حداثة قصرية على المقاس، أقصت النخب ووظفتها سياسيا فقط. المشكل اليوم أن الفكر الاصلاحي يجب أن يتمتع باستقلاليته وأن يكون اجتماعيّا وإنسانيا مرتبطا بالمجتمع وله أفق إنساني في علومه ومناهجه ومعارفه. الدين الإسلامي يملك ميزة عالمية وهذا ما يحمّل المسلمين ومفكريهم المسؤولية الأكبر في الدفع نحو التقارب بما فيه وقف العنف والتباغظ بين المختلفين في الثقافة والدين.
هناك جهود كبيرة من الباحثين للتأسيس لعلاقة جديدة. فلو نعود لجريمة نيوزلندا فقد كشفت بوضوح أن الحضور الاسلامي لا علاقة له بالعنف بل استتبعه تفهم وتضامن حقيقي على المستوى الرسمي والشعبي. تاريخنا في تركيا وشمال افريقيا والأندلس حافل بقصص التعايش الممتد في الزمان والمكان. والتوتر يتغذى من تواصل السياسات الاستعمارية، التي تتغذى بدورها من أحداث العنف والعنصرية والصراع الديني.
س ـ حتى في ظلّ استمرار العلاقة غير المتكافئة وفي ظلّ استمرار دعم الغرب لاحتلال الكيان الصهيوني للأرض العربية واغتصابها لفلسطين؟
ـ قطعا لا، ففي ظل تواصل فكرة الاستعلاء لا يمكن لأي حوار أن ينجح. يجب أن تتغير فكرة الاستعلاء لصالح فكرة التعايش والتكافؤ. الغرب المسيحي يدعم الكيان الصهيوني لأنه يراه قد حقق له مغانم بأقل كلفة. فالغرب يريد وكيلا في المنطقة. وهذا ما يخدم الأجندات الاستعمارية الجديدة. واليمين المتطرف هو التعبيرة المثلى هذا الاستعمار.