جيل خرج من رحم ثورة يناير، كانوا صبيانا وأطفالا شاركوا فيها تظاهراً وهتافا وخدمة ودفاعا.. جيل ناقد ناقم متمرد.. هذه بدايات كل الشخصيات المستقلة المتحررة غير التابعة، جيل التحرر لا تصنعه الأيدي المرتعشة ولا المؤسسات المرتهنة، لكن تصنعه الأحداث الأجسام والمواقف العظام..
تمرد الجيل الحالي هو تمرد يناسب طبيعة المرحلة، مرحلة السطو المسلح على حلم الحياة بكرامة في ظل وطن حر، مرحلة التيه والضياع والانحطاط الذي يحيطهم من كل مكان، في بقايا الأسرة والمدرسة والمسجد والكنيسة وفساد الإعلام.
فاصبروا عليهم، إياكم من تدجينهم تحت أي شعار، إياكم أن تظنوا ممارستهم خروجا عن الأدب! بل ما هو الأدب؟ مفهوم يحتاج إلى تحرير حتى لا يدخلوا بحجة الأدب حظائر العبيد والتبعية وإلغاء الشخصية، وربما يدخلون به معابد الفرعون طاعة وولاء ونفاق.
رسخوا فيهم القيم إن استطعتم.. قيم الإيجابية والصدق والعدل، ورفض الظلم، ونصرة المظلوم، اجعلوهم يروا فيكم قيم السلوك الحسن للقول الحسن، سلوك المؤمنين بربهم قولا وعملا.. لا إيمان بلا عمل، إيمان المتكلمين لا العاملين..
إياكم أن تغرسوا فيهم الحكم والأمثال التي ضيعت الأجيال.. إياكم من "امش جنب الحيط وأحيانا داخل الحيط".. إياكم من "الحيط لها ودان".. وإياكم من "اربط الحمار زي ما يقول صحبه".. ثم يكون الحصاد لا حمار ولا رباط..
دعوهم يطرحون كل الأسئلة خاصة الصعبة عن الكون وعن الله وعن الدين وعن الدنيا، ولا تجيبوا إن لم تكن لديكم الإجابات فتكون مصيبتين: مصيبة الكذب عليهم ومصيبة فقدان الثقة فيكم.. دعوهم يبحثون هم وسيصلون حتما ولو بعد حين، ليكونوا على ثقة وعلم وقناعة وليس اتباع والسير مع القطيع دون دراية.
لا تقلقوا، هو تمرد تهذبه التجربة والنضج، إياكم من توريث صفات الخضوع والخنوع والخوف، بل قيم الشموخ والجرأة والمغامرة.. دعوهم يمارسون حقهم ويعيشون تجربتهم. يخطئون ويصححون.. يتعثرون ويقومون.. دعهم يقولون لا ولماذا.. أكثر مما يقولون نعم وتمام..
اصبروا عليهم واستوعبوهم وانصحوهم بما يناسبهم هم لا ما يناسبكم أنتم، وأكثروا الدعاء لهم بالصلاح والإصلاح والهداية والتوفيق والتفوق، لا تشتبكوا معهم حتى لا تخسروهم، إن لم تنجحوا أن تكونوا لهم آباء وأمهات وأصدقاء وصديقات، فلا تكونوا لهم خصوما وفرقاء..
احترموا وقدروا ما يقولون.. واسمعوا لهم أكثر مما تتكلمون إليهم، وارفقوا بهم.. لا تخسروهم أبناء رحماء ولا أصحاب رفقاء..
اطمئنوا، الشجرة الطيبة ستنبت ثمرة صالحة ناضحة وإن طال الوقت. كان الإمام الزاهد العابد الفضيل بن عياض "عابد الحرمين": يقول اللهم أصلح ولدي فإن عجزت عن إصلاحه، وظل يدعو سنوات طوال حتى أصلح الله له ولده.
جيل التحرر من
الاستبداد عليه تبعة تاريخية نبيلة، وهي استكمال سلسلة التحرر التي حققتها شعوب وأجناس وقوميات، والتحرر من العبودية ثم التحرر من الاستعمار، وأخيرا النضال للتحرر من الاستبداد وريث الاستعمار ووكيله في بلادنا. جيل التحرر من الاستبداد أمل منشود وحلم موعود، فلا تفقدوا الأمل ولا تتنازلوا عن الحلم.
ويبقى السؤال الأهم: كيف نسهم في بناء جيل التحرر من الاستبداد قياما بالواجب الشرعي والمسؤولية الوطنية؟
وللحديث بقية..