قضايا وآراء

ورحل الإمام الصادق المهدي

إبراهيم الصديق علي
1300x600
1300x600

(1)

 

 اختطف الموت الإمام الصادق الصديق عبدالرحمن المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام كيان الأنصار ورئيس وزراء السودان مرتين (1966 ـ 1967م) وفي (1986 ـ 1989م)، وبرحيله أحدث (ثلمة) في كل مناحي الحياة السياسية والفكرية والدينية.

كانت حياة الإمام الصادق المهدي منذ ميلاده في 25 كانون أول (ديسمبر) 1935م وحتى رحيله، رهينة بالتحولات السياسية والأحداث بتقلباتها في السودان، فهو زعيم إبن زعيم  إبن زعيم وقائد الثورة المهدية والتي حررت الخرطوم من قبضة الإنجليز 1885م، وتخرج في أكسفورد (تخصص اقتصاد) وانخرط في الحياة السياسية باكرا، وانتخب رئيس حزب الأمة القومي 1964م، وتصاعد من هناك برنامجه الإصلاحي ونهجه السياسي، لإرساء دعائم حزب قائم على الإنفتاح على الآخرين ولإستقطاب قوي جديدة ليس بالضرورة من (الأنصار)، مع التجديد في طرح رؤاه السياسية ونهج تفكيره للقضايا فقد أصدر عام 1964م كتابه (مسألة الجنوب) داعيا للحل السياسي.

ومن بعد ذلك ارتبطت كل مراحل التحولات السياسية بالإمام الصادق، فقد كان في خضم ثورة تشرين أول (أكتوبر) 1964م وحين جاء إنقلاب جعفر النميري 1969م كان الصادق احد المعتقلين وبعد ثورة نيسان (أبريل) 1985م حقق حزبه أكبر عدد من المقاعد وتولى رئاسة الوزراء (1986 ـ 1989م) وجاءت الإنقاذ وكان أحد أبرز المعتقلين وحين جاء حراك 2018م كان أكبر قادته.. وقد لخص الإمام الصادق معاناته في آخر رسائله والمكتوبة يوم 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 م ويحكي عن إصابته بكورونا بالقول "ولكن الذي حدث لي بالفعل أني تناولت الحياة فعلا بملاعق حديد حام تشوي القلوب والجلد، سجنت 8.5 عاما، وحوالي 12 عاما في منفي ومصادر مرتين وحكم بالإعدام مرة واتهامات تصل عقوبتها الإعدام ثلاث مرات..".

(2)

اشتهر الإمام الصادق من خلال تأسيس مواقفه بناءا على منطلقات عملية وفكرية، ويمكن أن نوجز ذلك في الآتي:

أولا ـ التحديث والتجديد، فقد سعي لتطوير المؤسسة الحزبية وأدى ذلك للخلاف المشهور مع عمه الإمام الشهيد الهادي المهدي 1966م وانقسم الحزب تيارين حينها، وهو الأمر الذي أحدث تباينات في البيت المهدوي، وظل الإمام الصادق حريصا على إبداء آرائه في كل ما يستجد من قضايا سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.

وثانيا ـ الانفتاح على الآخرين، وبناء التحالفات السياسية وفق المتاح، فقد أيد ثورة تشرين أول (أكتوبر) 1964م باكرا، وشارك بفاعلية في الجبهة الوطنية ضد مايو منذ بدايتها في سبعينات القرن الماضي، وانضم للتجمع الديمقراطي بعد الإنقاذ ووقع ميثاق مع الحركات المسلحة بباريس 2012م، واخيرا ميثاق إعلان الحرية 2018م.

وثالثا ـ الإعتزاز بالفكر الإسلامي، وتقديم الدراسات والبحوث والمشاركة في الأنشطة الفكرية والملتقيات ومحاورات العلماء، فلم تشغله غاشيات السياسة عن الإطلاع والتدبر والمراجعات، وجاء سهمه واسعا، وهو أحد ثلاث من السياسيين السودانيين تميزوا بذلك (د. حسن الترابي، وعبدالخالق محجوب) مع تفاوت في الكسب والتوجه، فقد كان يقود ثورة فعلا وحقيقة وطرح برنامج (الصحوة الإسلامية) .. لقد عانى الصادق من مواقفه تلك حين رفض معاداة إيران حين كان رئيسا للوزراء، فهو داعية للتقارب بين الأديان، كما رفض حتى رحيله التطبيع مع إسرائيل.

ورابعا ـ إعلاء المصلحة الوطنية في خياراته السياسية، ومهما اختلفنا معه أو اتفقنا، فإن منطلقات ومواقف الإمام كانت تضع السودان في مقدمة أولوياتها، لم يكن رهينا لتوجهات أو أجندة خارجية أبدا، جاء لمصلحة النميري عام 1977م بورتسودان، واجتمع مع د. حسن الترابي بجنيف ومع الرئيس البشير بجيبوتي عام 1999 م وعاد للخرطوم في كانون أول (ديسمبر) 2000م وأبدى الإمام الصادق تأييده لفكرة مؤتمر الحوار الوطني 2014م..

و خامسا ـ ومع أن حزب الأمة القومي نشأ استنادا على طائفة دينية، إلا أن الإمام الصادق ظل حريصا على المؤسسية، وكلما تهيأت فرصة انعقد مؤتمرا للحزب، كما عقد عام 2002م مؤتمرا لكيان الأنصار ويعتبر الأول من نوعه.. لقد كان نصيرا للديمقراطية ونتائجها.. والنزول عندها والرضاء.

(3)

يروج عن الإمام الصادق صفة (التردد) و(الهبوط الناعم)، ولكل مرحلة صفة وتوقيت، والحقيقة أن هذه الادعاءات لا تخلو من المكايدة السياسية، بل دليل عافية للإمام، فهو لا يسعى لكسب سياسي وإنما للمصلحة الوطنية، كما أن القيادة المسؤولة لا تدخل في (مغامرات) مجهولة النتائج، ولا بد من دراسة وافية، ووحدها بعض القوى السياسية التي تفتقد السند الجماهيري والثقل السياسي تسعى لاقتناص السوانح الصغيرة تتعجل خشية فوت ، وإنما الحزب والشخصية ذات الكاريزما تدرس كل أمر بتمهل وتأن وتنتظر قرار المؤسسات، كما أن الوطن لا يحتمل جراحات حادة وقفزات طائشة ولا بد من المضي وفق مخطط مدروس يستوعب الجميع..

رحم الله الإمام الصادق، كان صمام أمان هذه المرحلة وحكيمها، كما ظل دوما نصيرا لحركة الإسلام مناهضا للتغريب في الفكر والتوجه..

وأختم بما كتب الأستاذ الصحفي الأديب حسين خوجلي: "وضعت يدي على جبهته الوضيئة وهمست في أذنه:

سيدي إن أعداء السودان قادمون..!!
وحينما لم ينتفض الصوفي الفارس..
صحتُ باكياً أيها: المضطهدون..
 المشفقون..
الحالمون..
الصابرون..
من بلاد السودان المديدة القامة، الحافية القدمين
"مات الإمام"..

التعليقات (0)