أذكياء التصهين وبُلهاء الدكتاتور

تعكس خارطة الأحداث المواكبة لاندلاع الثورات العربية التي انطلقت شرارتها في تونس ثم مصر وليبيا وسوريا فإلى اليمن فالعراق ولبنان والخرطوم والجزائر، مع إتمام عقدها الأول بعد أيام قليلة، رجحان كفة القوة والوحشية التي جوبهت بها بثورة مضادة محكمة التحالف وبوحشية وقوة منقطعة النظير، تركت آثارا عميقة من الشروخ المتعددة على المجتمعات العربية.

فالإبادة الجماعية وحملات التطهير العرقي، التي قادت كل من طهران وموسكو عملياتها في سوريا، أفضت نتائجها المأساوية لفصل مشابه لما تؤول إليه نتائج القمع الوحشي بقوة وتحالف الثورة المضادة، في كل من مصر واليمن والعراق وليبيا على حد سواء، وانعكست بشكل أو بآخر على تطورات مهمة تخص القضية الفلسطينية، وقضايا عربية أخرى ارتبطت كلها مع ملف واحد تحتمي به دول عربية تحت مظلة التطبيع لإنقاذ نفسها.

ما ينسل لمخيلة البعض من أسئلة: كيف سيتمكن الشارع العربي من الإفلات مجددا من قبضة الوحشية والقمع بعد دورة التحطيم الأولى للثورات؟ وكيف سيتم اجتياز هذا التحالف الواضح والعلني للنظام العربي مع نفسه ومع المحتل؟

إنها محاولة لتكبيل المجتمعات مجددا بأسوار عالية من الخوف والقمع، وبشروط قاهرة يخضع بعضها للمتفرجين على محاولات ترويض وحشي مع الطغاة الخاضعين بدورهم لعملية ترويض كبرى في فصول متشابهة من الغطرسة المسكوت عنها، والمحتفى بها في قصور رئاسية غربية، ولتفوز بأوسمة وبعبارات المديح والدعم المشجع على خلق حقائق جرمية من المستحيل أن تكون طي النسيان، وأن تمر دون حساب.

التذرع بكل شيء، في سبيل إعادة السيطرة على مجتمعات عربية ثائرة، لن يكون أبديا، وغير قابل للتحقيق رغم كل العجز الظاهر في تخفيف وطأة القتل والقمع والتخاذل والتطبيع المفضوح مع المحتل والطاغية العربي. باستطاعة نفاق المجتمع الدولي وتواطؤه ترويض وحشية المستبدين لحساب المصالح المشتركة، وبمقدورهم حياكة المؤامرات تلو المؤامرات على الثورات، لكن من الصعوبة إقناع الشارع العربي بأن حياته ومستقبله سيكونان مع محتل وطاغية؛ قاتل آبائهم وأمهاتهم ومغتصب أرضهم ومُغيب أحبتهم ومنتهك أعراضهم. وإذا كانت الأسباب والظروف التي أدت لاندلاع الثورات في موجتها الأولى تستند لجزء من حالة الانهيار والفشل في بناء المواطنة وتوفير أجواء الحرية والتنمية، وتعميم ثقافة النهب والقمع، فإن مضاعفة الأسباب بهذه الدموية وهذا الاستسلام والتآمر والتصهين لن تكون له أثمان على هوى الطاغية والمحتل. وعربون العقد الاجتماعي والأخلاقي والإنساني لمستقبل المجتمع العربي، لن يتحقق إلا بحريته.

الصدام الذي بدأ والذي يأخذ اليوم مسارات متعرجة، هو التعبير المباشر عن إحدى لحظات الحرب الشاملة على الثورات وعلى قضية فلسطين، ويفتح الصدام من مواقع متقدمة مع الثورات بالالتفاف نحو حبل التطبيع والاعتصام به كطوق نجاة الأبواب أمام مآزق مركبة يصعب تجاوزها أو "التعايش" معها. فلا صور "السيلفي" للمطبعين في تل أبيب ولا الولائم والاحتفالات بالتصهين من دبي والمنامة والرباط والرياض، بمقدورها تزييف الواقع الذي يقاومه أصحاب الأرض منذ أكثر من قرن

الاحتفاء بأعياد وأساطير صهيونية أمام أبراج الإمارة العربية وبعض العواصم العربية يمس بنيتها وعقيدتها وتاريخها، ويفرض حدا مؤلما من الانكشاف على التآمر والمساومة على الحقوق، لكن ليس بمقدوره تزوير التاريخ والواقع والعبث بالمستقبل، لأن "أذكياء" التصهين والأسرلة مع "بلاغة" الدكتاتور وقعوا في حماقة تُبرهن وتُعمق فطنة الوعي للشارع العربي وتزيد أسبابا مضاعفة لثورته القادمة، بعيدا عن بروباغندا المطبعين والمحتلين.

دوما كانت حسابات الواقع العربي حسابات تحد، فالشعوب التي واجهت القمع والقهر والفقر والاستبداد والطغيان والتآمر، والتي تقف اليوم مناهضة ورافضة للتطبيع مع المؤسسة الصهيونية، إنما تخوض كل معاركها مجتمعة لتصنع مستقبلها. كل عنوان من عناوين الصراع في مطالب الحرية والتنمية والتحرر والمواطنة وإسقاط الديكتاتوريات، وإن بدا محصورا في مجتمعات عربية، أشار ويشير إلى أن العالم العربي بأسره هو ساحة تحد لفك الارتباط بين الطاغية والمحتل، ومقاومة فك الارتباط مع فلسطين الشعب والقضية، ومهما حاول أذكياء التصهين وبلهاء الدكتاتور انتزاع شجاعة وبطولة ستكون من نصيب شعب حر.

twitter.com/nizar_sahli