أبراهام لينكولن، فرجينيا وولف، إيرنست همنغواي، سيغموند فرويد، فرانز كافكا، جون ستيوارت ميل، نيتشه، آدم سميث، ديفيد هيوم، إميل سيوران، والعشرات غيرهم من المبدعين كانوا مصابين بالاكتئاب.. السؤال الجوهري هنا هو: لو كان هؤلاء يتناولون
الأدوية المضادة للاكتئاب، هل سيكون وجه العالم خاصة في الفن والأدب كما هو الآن؟
لقد قاوم الكثير من المبدعين منذ بداية القرن العشرين وبدء تصنيع مضادات
الاكتئاب علاج الاكتئاب، خوفاً من فقدان الدافع للإبداع. أجاب الشاعر إدوارد توماس عندما عرض عليه العلاج النفسي: أتساءل ما إذا كان بالنسبة لشخص مثلي كانت أكثر لحظاته تجلياً هي الكئيبة منها، كيف يمكن لعلاج ما أن يدمر الاكتئاب فقط لا الإلهام؟ علاج يائس هو. وجادل سيغموند فرويد - الذي قتل نفسه أيضاً – فقال إن الإبداع الفني هو نتاج عصاب ذهني.
نحن نتعامل مع الصراعات في وعينا الباطن عن طريق إخراج بعض الأشياء منها. إذا كانت هذه، المبسطة بشكل صارخ، هي النظرية التي تكمن وراء الارتباط بين
المرض العقلي والإبداع، فإن القلق لدى الفنانين هو أنه عند نبذ كلابهم السوداء، فإنهم يطفئون أيضاً نيران الإلهام، مما يضعف عبقريتهم.
إن التحولات في الشخصية حدثت عند أعداد كبيرة من أولئك الذين يتعاطون مضادات الاكتئاب، مع التوقف عنها لفترة قصيرة، للتكهن بشأن ما قد يكون لها تأثير على إبداعهم. على الرغم من أننا نعلم أن الشعراء أكثر عرضةً للإصابة بالاضطراب ثنائي القطب بنسبة 30 مرة أكثر من المتوسط، لكن ليس لدينا أي فكرة عن كيفية تأثير هذه الأدوية على إنتاجيتهم الإبداعية.
تحدث عدد من الكتاب المبدعين عن السعادة الذهنية التي يمنحها علاج الاكتئاب، فوصفوها كما لو بدت طبقة رقيقة من الثلج تتساقط على الذهن، وتمنع الوصول إلى المشاعر الطاغية المُغرِقة، وتُبعدهم عن الدوافع الخفية التي تدفعهم غالبا إلى
الكتابة. ربما كانوا يشعرون أحياناً بأنهم أفضل، لكن في أكثر الأحيان كانوا يشعرون بالضيق من شعور غريب بأنهم كمن يتنقل على سطح الحياة لا يعيش فيها. وإذا نظرنا إلى الوراء، فإن تلك السنوات مع الأدوية المضادة للاكتئاب تكون كما لو هي مغطاة أو يُنظر إليها من خلال الشاش. وما زال العلم لا يعرف إلا القليل عن آلية عمل مضادات الاكتئاب وتأثيرها على النواقل العصبية للدماغ، حيث من الممكن أن يتحول الدواء إلى داء عند المبدعين.
اعتمادا على مقابلات مع كتاب وفنانين وموسيقيين أخذوا مضادات الاكتئاب، في محاولة لإثبات ما إذا كانت لعنة أو نعمة لإبداعنا الجماعي، وتم التركيز فيها على الفنون لا العلوم، وكما وصف أحدهم، فإن مضادات الاكتئاب تجعلك أكثر ثقة بنفسك، وأقل وعياً وإدراكاً لمشاعر الآخرين من حولك، وأقل اهتماماً بما يفكره الآخرون عنك. ربما تكون تتحدث بشكل سيئ جداً، وإنتاجك الإبداعي أو الفني في انحدار، ومع هذا فأنت لا تعبأ برأي أحد، وماضٍ قدماً في الذي تفعله، وهذا يمثل في كثير من الأحيان تغييراً جذرياً لبعض الشخصيات الإبداعية، بأن يصبحوا لا يعبأون برأي الآخرين، إنها لعبة خطرة!
وجدت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد في عام 2009، ونشرت في المجلة البريطانية للطب النفسي، أن أولئك الذين أخذوا مضادات الاكتئاب أبلغوا عن انخفاض عام في شدة المشاعر التي عاشوها، ووصفوا أنفسهم بأنهم يشعرون بالغباء أو بالخدر أو بزوال المعالم، أو انسداد المشاعر. وإذا كان الشعر (كما ادعى وردزورث) هو التدفق العفوي للمشاعر القوية، فهل تستطيع إدراك العواطف الهائجة بهدوء؟ فهل يمكن لمضادات الاكتئاب أن تجلب للمبدعين مشاعر دفّاقة، وبنفس الوقت هدوءاً كبيراً؟
قال أحد المؤلفين: "إن الكتابة مع مضادات الاكتئاب مثل السباحة في الوحل. جاءت الكلمات ببطء أم لا على الإطلاق؛ كان ينظر إلى العواطف كما لو كانت على مسافة كبيرة، غريبة ونائية. حتى على مستوى الجملة تلو الأخرى كنت على دراية بحدوث تأخر معين في كتابتي، وبطء في بناء الجملة: بصمة المخ الذي فشل في اللحاق بنفسه. لقد فاتني المزاج المحموم لمراهقتي، حيث أكتب قصصاً رائعة - أعني فظيعة، لكنها رائعة في ذهني- اشتعلت في تدفق الكلمات، غاضبة ومحبطة. لقد تركت الكتابة تماماً ولم أبدأ من جديد إلى أن تخليت عن مضادات الاكتئاب".
من الكتاب الآخرين كانت الروائية أماندا كريج من أوائل الذين تناولوا مضادات الاكتئاب في بريطانيا. كانت تعاني من الاكتئاب الشديد، ووجدت مضادات الاكتئاب غير مفيدة، بل ومدمرة، على الرغم من التحسن البسيط الذي حصل لمزاجها. قالت: لقد مكنتني الأدوية من العمل، لكنها خففت من كل شيء، بما في ذلك نوافذ الفرح التي اكتسحت تدريجياً الاكتئاب. لقد غيّرت من أنا ومن ضمن ذلك أنني كنت كاتبة. توقفت أخيراً عن تناول الحبوب وحوّلت تجربتها من الاكتئاب إلى رواية ذائعة الصيت بعنوان: في الغابة المظلمة.
مؤلفة أخرى قالت: "لقد أصبت بالاكتئاب طيلة حياتي، لكن لم أصل إلى القاع إلا بعد ولادة طفلي الثاني. لقد أصبت باكتئاب شديد ووضعني طبيبي على مضادات الاكتئاب. وعلى الرغم من أن الأدوية قدمت بعض الراحة من الأعراض، إلا أن الثمن كان باهظا، هو إبداعي. لقد استغرق الأمر ستة أشهر وشعرت كما لو كنت أسير في هذا العالم الرمادي، مع كل الفرح الذي خرج منه تماماً. لم أشعر بالسعادة أو الحزن، لقد كان الشعور حقيراً تماماً. ككاتبة، أحتاج إلى أن أشعر بعاطفة من نوع ما. لقد تم إطفاء الشرارة الإبداعية تماماً بالنسبة لي، وكان لدي موعد نهائي واضطررت إلى مطالبة الناشر بمنحي المزيد من الوقت لأنني لم أستطع الكتابة، فكل ما كتبته كان نوعاً من الوحل الطيني المثير للاشمئزاز ولم أستطع تشكيله إلى أي شيء".
وأخيرا: بالنسبة للإبداع، مضادات الاكتئاب تجعلك تشعر بقليل من: هذا جيد نوعاً ما، وحسب. معها تفقد الناقد الداخلي، وهذا ينطبق على الحياة وكذلك الفن. لذا أجمع المبدعون على أن مضادات الاكتئاب تسبب التحجر الإبداعي، وتطفئ شرارة الشعور الحقيقي الذي يقدح الإبداع و يغذيه. السؤال المصيري هنا: إن كنت مبدعاً مكتئباً هل ستأخذ أدوية مضادة للاكتئاب للسيطرة على الحال المرضية؟ أم ستكون مستعداً لاحتواء المرض وتداعياته كي تحافظ على نار الإبداع؟