هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
صدر للكاتب والإعلامي بلال التليدي مقال بموقع "عربي21" في جزءين بتاريخ 5/7 كانون الأول (ديسمبر) 2020 تحت عنوان "هل تعيش العدل والإحسان مأزقا في مشروعها". ونظرا لتضمن هذا المقال على العديد من المغالطات في حق أكبر جماعة دعوية وسياسية في المغرب، أصبح لزاما التفاعل معه قصد تقويمه وتصويبه، تقديرا للقارئ من جهة، وتمكينا له من حقه في المعلومة الصحيحة، بعيدا عن التأويل المتعسف للوقائع، والأدلجة الفجة للأفكار.
هكذا وبعد وقوفنا على مظاهر الاضطراب الاستدلالي في مقال بلال التليدي عن "العدل والإحسان"، دعونا ننتقل لمناقشة بعض المضامين المتهافتة التي شكلت أهم مفاصله:
1 ـ يزعم السيد بلال أن الجماعة يهيمن عليها تياران، أحدهما ياسيني أورثودوكسي لا يقبل التغيير ويؤمن بفكرة الشيخ. والثاني براغماتي يرى أن إرث "الشيخ" ياسين يحول دون تقدم الجماعة سياسيا؛ بمعنى أننا أمام صراع بين الجناح التربوي والجناح السياسي.
وحسب زعم السيد بلال، فالصمت السياسي الحاصل داخل الجماعة، مرده إلى انشغال القيادة بتدبير الأزمة الداخلية بين التيارين، وذلك من خلال عدم إظهار المواقف، وعدم الحضور الإعلامي الكثيف، ثم عدم التموقع في صلب الصراع مع السلطة.
وهنا بالذات أقول للسيد بلال: ألم تقل إن جماعة العدل والإحسان تخفي الكيفية التي تدبر بها صراعاتها وتوتراتها الداخلية؟ فكيف كشفت إذن عن هذه التدابير الثلاثة التي تفضلت بها؟ ثم كيف ستحل تلك التدابير الأزمة بين تيار أورثودوكسي وآخر براغماتي، أليس في طرحك هذا تقزيم للذكاء والعقل داخل أكبر جماعة تمارس النقد والمعارضة تجاه نظام سياسي مستبد؟ ثم لماذا لم يقدم لنا السيد بلال أمثلة واقعية لهذه الصراعات من خلال محطات معينة أو انشقاقات وقعت داخل الصف...؟
إن تماسك الجماعة بعد رحيل الإمام عبد السلام ياسين لمدة ما يقرب عن عقد من الزمن يفند كل الادعاءات بما فيها تلك التي تزعم أن الأستاذ عبد السلام ياسين هو من كان يسير الجماعة لوحده في حياته. وللأسف الشديد تعمد الكاتب تغييب معظم مؤسسات الجماعة خاصة مجلس إرشاد الجماعة الذي تمنحه قوانين الجماعة صلاحيات أوسع من صلاحيات المرشد أو الأمين العام. وهنا أسأل السيد بلال من الذي كان يسير الجماعة إبان عشر سنوات من الإقامة الإجبارية على الأستاذ عبد السلام ياسين؟
2 ـ قولك أن الجماعة بدأت في منحنى تنازلي مع صدور مذكرة إلى من يهمه الأمر، وتعمقت أزمتها مع فشل رهان رؤية 2006، ثم على حد قولك فقدت الجماعة صورتها بالنتائج العكسية لحراك 2011. وهنا أتساءل معك سيد بلال كيف لجماعة بدأت أزمتها حسب قولك سنة 1999مع المذكرة، وتأزمت سنة 2006 مع الرؤيا، أن تدخل في حراك شعبي سنة 2011 غطى كل مدن وقرى المغرب؟ فلو كانت الجماعة تعيش أزمة تنظيمية وسياسية لما كانت بتلك القوة التي أرغمت نظام الحكم في المغرب على تغيير الدستور، وسمحت لحزبكم أن يشكل الحكومة مرتين!
إن تماسك الجماعة بعد رحيل الإمام عبد السلام ياسين لمدة ما يقرب عن عقد من الزمن يفند كل الادعاءات بما فيها تلك التي تزعم أن الأستاذ عبد السلام ياسين هو من كان يسير الجماعة لوحده في حياته.
3 ـ قولك إن وفاة "الشيخ" أحدثت صدمة وأدخلت البراديغم الحركي للجماعة دائرة الشك والمساءلة، بل أنها أوصلته منتهاه. وكأني بالسيد بلال لم يتابع الاحتفالات السبع السابقة بذكرى الإمام عبد السلام ياسين، والتي تشهد أن رحيل الإمام لم يزد الجماعة إلا توهجا لشعور كل أعضائها بثقل الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقهم، وحفز الجميع لينخرط في خدمة المشروع وفاء لروح المؤسس وتحقيقا للمشروع. وبالمناسبة أدعو السيد بلال إلى أن يعاين فعاليات الذكرى الثامنة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين ليعرف الآفاق التي وصل إليها فكره، وعدد اللغات التي ترجمت إليها كتبه، لعله يدرك أن الأزمة لا توجد إلا في ذهنه ومخيلته.
4 ـ ذكر الكاتب أن الجماعة دخلت حالة غيبوبة طويلة عن المشهد السياسي، والمؤشر حسب زعمه وقوله: "فمن مدة لم يسمع لهذا التنظيم رأي ولا موقف ولا حرص على أن يثبت وجوده ضمن الديناميات السياسية". ثم يضيف قائلا: "المجلس القطري للدائرة السياسية لم يعد معنيا بالمطلق لجعل مخرجاته تحت ضوء الإعلام".
وهذا غير دقيق لأن المجلس القطري للدائرة السياسية منذ تأسيسه وهو يصدر سنويا تقريره السياسي الذي يشمل مواقفه من كل القضايا الوطنية والإقليمية والدولية. لكن سنة 2020 ونظرا لانتشار وباء كورونا وما يقتضيه من الدواعي الاحترازية تم تأجيل دورته لوقت لاحق. وهنا أغتنم الفرصة لأسأل الباحث المتخصص عن أي دينامية سياسية يتحدث في ظل جائحة كورونا واستبداد الحكم في المغرب؟ هل دينامية الحكومة المُغَيَّبَة التي يتزعمها حزبه والتي لم نحس منها من أحد ولم نسمع لها ركزا؟ ألم تتحول البلاد كلها في ظل حالة الطوارئ الصحية تحت هيمنة وزير الداخلية والولاة والعمال والباشاوات؟ هل يا ترى شاهدت أو تابعت دينامية سياسية داخل قبة البرلمان الذي تمثل فيه الحكومة الأغلبية؟
هل كانت هناك دينامية للأحزاب الرسمية التي تتلقى الدعم الرسمي من الدولة، ولها مقرات في كل المدن والقرى ومنها حزبكم؟ بالطبع الجواب لا، لأن الفاعل الوحيد طيلة فترة الطوارئ كانت وزارة الداخلية. فكيف يا سيد بلال تطالب جماعة محاصرة لا مقرات لها، وتم غلق وتشميع بيوت أعضائها أن تعقد مجلسها القطري لتجعل مخرجاته تحت ضوء الإعلام؟ ما أظنك كنت غافلا عن سياقات كورونا ولا مساقاتها، ولكنك غيبتها عمدا لتثبيت صحة زعمك أن هناك أزمة داخل الجماعة.
5 ـ تساءل السيد بلال عن غياب شبه تام لقيادة الجماعة عن المشهد الإعلامي، وهذا ما يدفعني لمساءلته: عن أي إعلام غابت قيادة الجماعة، هل عن الإعلام الرسمي الذي ندفع ضرائبه ونمنع من الظهور فيه؟ أم عن جرائدها التي صادرها ومنعها النظام الحاكم؟ ثم هل فعلا رصدت هذه الظاهرة وتوصلت إلى نتائجها وفق أدوات معيارية ومنهجية مقارنة أم أنك تطلق لأحكامك الحبل على الغارب؟
إن المواقع الإلكترونية ومحرك غوغل كان يكفيانك سيد بلال لتنهمر عليك البيانات والمقالات والتسجيلات والتصريحات بما ينوء به عقلك، ناهيك عن أن صفحات مؤسسات الجماعة وقيادييها على منصات التواصل الاجتماعي تنشر المواقف أولا بأول. فكيف تغيب عنك كل هذه المصادر، أم أنك تتعمد تغييبها؟
6 ـ قولك إن "الشيخ" عبد السلام ياسين ببعثه لرسالة الإسلام أو الطوفان للملك كان يبحث بها عن ألق ووهج لدعوته. أنت تعلم يا سيد بلال أن جماعة العدل والإحسان لم تكن وقتئذ موجودة، ثم كيف يستسيغ عقلك أن شخصا سيبعث لملك المغرب الذي نجا من محاولتي انقلاب برسالة لا لشيء إلا ليبحث عن التألق والوهج لدعوته؟ فهل يُعَرِّض شخص حياته للموت من أجل ألق ووهج؟ شيء من الإنصاف يا سيد بلال ولا تبخس الناس أشياءهم. فالإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى ناب عن الأمة وقام بواجب النصيحة وبرأ ذمم كل المسلمين من هذا الواجب أمام الله بإقامته الحجة على الحاكم. وهذا الموقف العظيم الذي قل نظيره ما كان عليك أن تشوهه عن سبق إصرار، بل كان من واجبك كمسلم أن تعترف لصاحبه بهذا الفضل، لكن للأسف قد تعمي عصبية الانتماء عن الحق.
جماعة العدل والإحسان هي أكبر من أن تذوب في شخص أو قيادة، بل هي تنظيم يقوم على مؤسسات وظيفية وأخرى تخصصية في كل المجالات، وأن اختلافات الرأي داخل الجماعة محمودة وتدبر وفق آلية التداول والشورى، وتحسم بالتصويت والأخذ برأي الأغلبية.
7 ـ زعم السيد بلال أن الخيارات السياسية التي أوردها الإمام في رسالة الإسلام أو الطوفان كان الغرض منها إسقاط الحكم العاض والحكم الجبري وإقامة الخلافة على منهاج النبوة في المغرب. وهذا لعمري افتقار لأدنى درجات الفهم، كما أنه خطأ لا يقبل من باحث متخصص، ذلك أن الخلافة هي حالة تعبر عن وحدة بين أقطار بعد تحريرها من الاستبداد وانتقالها إلى حكم راشد. كما أن الحكم العاض والحكم الجبري ليسا نظامين للحكم يختفيان بسقوط نظام دولة على حدة، وإنما هما حالة حكم متفشية في الأقطار لن تنتهي إلا باختفاء العض والجبر من معظم البلدان الإسلامية.
8 ـ ذكر السيد بلال أن الجماعة اعترفت في أحد تقارير المجلس القطري للدائرة السياسية أنها ارتكبت أخطاء في تدبيرها السياسي وقررت التوقف عن تسفيه أطروحات الآخرين، وذلك بالانعطاف نحو العمل المشترك. متى كانت أدبيات الجماعة تسفه أطروحات الآخر؟ أليست كتب الإمام عبد السلام ياسين موجودة وفيها المعنونة ب: "حوار مع الفضلاء الديمقراطيين"، و"حوار الماضي والمستقبل"، و"حوار مع صديق أما زيغي" وهل الحوار دعوة إلى التسفيه؟ شيء من العقل!
9 ـ تحدثت سيد بلال عن تدني مستويات الاستقطاب خاصة بعد 2006 وحراك 2011، فهل يا ترى يمتلك السيد بلال أرقاما ومعطيات كمية استنتج من خلالها هذا التدني المزعوم؟ أتحداك أن تكون قد أسست حكمك وفق أي معطيات أو أرقام تذكر، فلماذا تصر على مغالطة القراء؟ يا سيد بلال اطمئن لأن مستويات الدعوة والاحتضان في تصاعد مطرد ولله الحمد، وليس هناك أي تراجع أو تنازل، رغم كل ألوان الحصار والقمع التي لم تكلف نفسك ذكرها من قبيل: تشميع البيوت، وإعفاء الأطر، وترسيب الأساتذة، والتضييق على الأرزاق، والمحاكمات الصورية، والاعتقالات المتتالية، ومع ذلك فإن جماعة العدل والإحسان تحتسب أمرها لله وتستمر في كسر الحصار والكينونة مع الشعب في معظم همومه ومطالبه المشروعة.
وفي الأخير أنبه السيد بلال إلى أن جماعة العدل والإحسان ليست حزبا سياسيا ولا جمعية ثقافية أو خيرية، وإنما هي حركة مجتمعية رسالتها دعوية بامتياز، أما السياسة فتمثل جزءا من اهتمامها، لذلك فإن اقتصار تقويم إنجازاتها على الجانب السياسي لوحده هو تغييب متعمد لجوهر عملها الذي لا تلتقطه الكاميرات، ولا تسلط عليه أضواء الإعلام وهو الدعوة إلى الله سبحانه ومجالس التربية.
كما أذكر أن جماعة العدل والإحسان هي أكبر من أن تذوب في شخص أو قيادة، بل هي تنظيم يقوم على مؤسسات وظيفية وأخرى تخصصية في كل المجالات، وأن اختلافات الرأي داخل الجماعة محمودة وتدبر وفق آلية التداول والشورى، وتحسم بالتصويت والأخذ برأي الأغلبية. أما تهويل مركزية الأشخاص وتضخيم هيمنتهم على الجماعة، فهو مجرد وَهْمٍ لا يلبث أن يندثر في أذهان من يروجون له، تتهاوى مزاعمهم بعد رحيل أولئك الأشخاص.
سيد بلال، إن الهدف الذي من أجله وجدت الجماعة ليس هو التقوقع داخل التنظيم والتفرغ للصراعات والتوترات الداخلية المزعومة، وإنما هو الخروج إلى الناس بخطاب الحكمة والرحمة، والسعي إلى تحقيق قيم العدل في الأرض بالتعاون مع كل الفضلاء وذوي المروءات، ثم دلالة الإنسان على ربه كي يترقى في مدارج الدين إسلاما وإيمانا وإحسانا.
إن كل ما تم ذكره لا يعني أن جماعة العدل والإحسان بدعٌ من الحركات التغييرية منزهة عن المشاكل والاختلافات، بل يجري عليها ما يجري على كل التجمعات البشرية، إلا أن صمام أمانها هو التربية ثم التربية ثم التربية، وذلك بإقبال أعضائها على الله سبحانه، وتجديدهم التوبة النصوح لربهم على الدوام، وتسلحهم بالمنهاج النبوي الذي يستمدون منه أدوات الاجتهاد، ويفتح أمامهم آفاق الأنفس والاستخلاف. فكن مطمئنا سيد بلال، لأن مشروع العدل والإحسان لا يعيش مأزقا ولا خوف عليه، ما دامت هناك قلوب تحمله، وعقول تطوره، وإرادات تنجزه، ورب كريم يحميه.
*كاتب وباحث مغربي في الفلسفة السياسية والأخلاق
إقرأ أيضا: هل يعيش بلال التليدي أزمة موضوعية تجاه العدل والإحسان؟ (1من2)