منذ حادث كفر عقب (قرب القدس) الذي هزّ وجداننا من أعماقها ودقّ ألف ناقوس خطر، وجعل رائحة الجريمة والموت والدمار النفسي الشامل تفوح في كل مكان وتزكم أرواحنا من رأسها إلى ساسها.. منذ لحظة رؤيتنا لمشهد الجريمة وسؤال أين الخلل؟ شاخص في أعماق قلوبنا.. ولماذا تقع مثل هذه الجريمة؟ وبهذه الصورة البشعة التي دقّـت جدران أفئدتنا بكل هذه القسوة والقوة؟ أين الخلل ولماذا؟ وهذه تحتها ألف سؤال وسؤال يقف على رأسها: لماذا غيّر السلاح وجهته؟ لماذا فقد بوصلته ومن المسؤول عن هذه العبثية المدمّرة؟
عند كل جريمة قتل نعود إلى نموذجين من البشر: قابيل وهابيل، أحدهما صاحب فكرة
القتل، قال لأقتلنّك. والثاني الذي امتنع وقال: إني أخاف الله رب العالمين. الأول لا يفكر في العواقب، عدواني يندفع لمراده الباطل بقوة جبروته، ولا يلتفت لشيء سوى ما تريده نفسه الأمارة بالسوء، ولا تدخل في حساباته: مآلاته في الدنيا الفانية ولا مصيره في الحياة الباقية، ينظر أمام أنف مطامعه ورغباته الفاسدة فقط ولا يقيم وزنا لأخيه، لا يرى إلا حظّ نفسه وتأخذه العزّة بالإثم. هو نتاج طويل من تربية قامت على تكريس الأنا وتعظيمها والاستكبار والاستعلاء على الآخرين، ونبذ الآخر وفقدان القضية والرسالة السامية في الحياة، لا يسعى في الحياة إلا لإشباع رغباته وشهواته البهيمية والسبعية والشيطانية كما يرى الإمام الغزالي، لا مكان في قلبه للصفات الرحمانية، بينما الثاني فقد سيطرت الصفات الرحمانية في صدره على كل نزعات الشرّ الشيطانية، وهو الذي استطاع أن يواجه أخاه الظالم المعتدي بهذه الكلمة الخالدة؛ إني أخاف الله رب العالمين، وهذه التي أنتجت إرادة الخير والصلاح والامتناع عن الجريمة: "لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك".
واليوم نجد تعزيز النموذج الأوّل من خلال عمل مؤسسي ممنهج، ونجد توفير البيئة والظروف المناسبة، ونجد سياسات عامة تعزّز هذا النموذج، ونجد أيضا إدارات فاشلة تفشل فشلا ذريعا في سدّ ذرائع الجريمة والقيام بما يمنع وقوعها، وإن وقعت يعرف كيف يجعل منها عبرة لكل من يفكّر بالجريمة. كل من يتقلّد مسؤولية في هذا الوطن ويرى البيئة الخصبة التي تتعزّز فيها الجريمة ويقف حائرا عاجزا صامتا فقد شارك بتقصيره، وكذلك كل من يقدر ولا يعمل على تحقيق الإدارة الناجحة التي تنتج التربية والثقافة والقانون والسلطان الذي يزع ما لا يزع به القرآن.
كل ما يعزّز نموذج قابيل: "لأقتلنّك"، نجده ونجد من يعمل عليه، ومن لا يبالي في تعزيز طاقته السلبية في المجتمع بل ويحارب من يعزّز الطاقة الإيجابية لنموذج هابيل؛ "إني أخاف الله رب العالمين"، هذا النموذج الذي يرفض التعاطي مطلقا مع النموذج الأوّل، بل ويرفض الردّ والدفاع عن النفس وكل مبررات ومنطقيات هذا النموذج الشرّير.
هي إذن في تحديد الخلل وتحديد مقدماته وتداعياته رزمة متكاملة، النموذجان موجودان منذ خلق البشرية وفي بداياتها الأولى، فدواعي الجريمة لم تكن ظروف كفر عقب ولم تكن شماعة الاحتلال، رغم عدم نفينا لعلاقة هذا بتوفير بيئة ملائمة للجريمة، ولكن الأساس هو إرادة هذا الإنسان الداخلية كيف تتحرّك وما هي دوافعها الذاتية، وهل بالإمكان العمل على تعزيز النموذج الطيب وحصر النموذج الشرير، وعمل كل ما يتطلّبه الأمر بكل جدّ واجتهاد وبمنهجية دائمة لا بعاطفية موسمية تأتي لصيقة لحدث ما، وإنما بإدارة مجتمعية متكاملة تحسن التعامل مع الموارد البشرية وتوجيه طاقاتها وتحرير إراداتها وبناء نفوس ناجحة وفاعلة، وفي ذات الوقت تأخذ بمتطلبات كبح جماح الشرّ بإقامة العدل والقصاص، وردع كل من تسوّل له نفسه دون تلكؤ أو تسويف يميت العدل ويضيّع الحقوق على قاعدة "ولكم في
القصاص حياة".
فإذا تعارفت الجاهلية على قاعدة: القتل أنفى للقتل، وجاء الإسلام ليرتقي بها ويجعل من القصاص حياة للناس، فلماذا نفرّط هذه الأيام بهذه القواعد الأصيلة في ضبط إيقاع الحياة البشرية على العدل والإنصاف للنموذج الطيب الإيجابي، والقصاص الذي يردع ويضع حدّا لتجاوزات النموذح السلبي الذي يهتك النسيج الاجتماعي بكل خفّة واستهتار؟
القاتل ينعدم عنده وزن غريمه إلى درجة أنه لا يرى لحياته قيمة وأن موته أولى من حياته، فيقدم على القتل ويطلق رصاصة الموت من بين يديه، لو فكّر قليلا وقدّر بوزن هذا الإنسان عند أهله وذويه، لو فكّر وقدّر وزن هذا الإنسان عند شعبه وأمته، وعند من خلقه بادئ ذي بدء (الذي جعل من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا)، لما أقدم على الجريمة، وكل من لا يقيم وزنا لحياة الناس فإنه يسهل عليه القتل. لو أقام الاحتلال مثلا وزنا لحياة الإنسان
الفلسطيني لما أقدم على قتله وتهجيره واعتقاله.
هنا مربط الفرس، فالبداية في أن نعيد الاعتبار وأن نزن الإنسان بالوزن الذي يليق به، فهو كائن له قيمة كبيرة، وهو مخلوق كرمه ربه وحمّله الأمانة وجعل له الخلافة في الأرض والمصير السرمدي بحياة سعيدة أبدية إن أتقن دوره في هذه الحياة الامتحان. فهو ليس مجرّد كائن وظيفي يحظى بحبّ أهله وذويه فحسب، وإنما هو خليفة لله وهو صنع الله ليقوم بدور عظيم يترتّب عليه عمارة الأرض وصلاح البشرية وديمومة حياتها، لذلك:
• فإن التساهل وعدم أخذ القصاص هو تفريط ما بعده تفريط، وتخفيف لوزن الإنسان وتطفيف في الميزان، وذهاب بالعدل الذي تقوم على أساسه الحياة الرشيدة.
• كذلك عدم العمل الجاّد بكل ما يلزم لإقامة نموذج "إني أخاف الله رب العالمين"، هو مساهمة مجانية لإشاعة البيئة الملائمة للجريمة وتعميمها.
• الوقوف الجماعي الجادّ مع التدابير المطلوبة كرزمة متكاملة لكلّ من يتصدّر الناس ويطرح نفسه مسؤولا أو وجيها أو رائدا في شعبه سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا أو ثقافيا، فالمطلوب أن يتنادى كل أولئك لعمل كلّ المطلوب لوقف المظاهر السلبية ولتعزيز كل ما هو إيجابي وبنّاء للقيم وحالة الوعي الجمعي الرشيد، مع القصاص الذي يضع حدا لكل من يخرج عن قواعد هذا المجتمع وقيمه، الذي يستحق الحياة الطيبة الآمنة المطمئنة.