هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "محمد علي وعبد الناصر.. ارتسامات النهوض العربي.. الصعود والانكسار"
المؤلف: فرحان صالح
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2018.
ماذا يحدث في منطقتنا العربية الآن؟ ما الذي يحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا؟ لماذا تتواجد الدول الكبرى بشكل أو بآخر في تلك الدول؟ هل القضية قضية مصالح ومنابع للنفط ومصادر للمادة الخام؟ أم هو البحث عن مناطق النفوذ ومواطئ الأقدام؟ أم هي المحاور والتحالفات لحماية هذه الأطراف المحلية أو تلك؟ أم هو السعي بكل وسيلة لعدم قيام قوة كبرى منظمة تملك إرادتها وتفرض نفوذها على المنطقة؟
رغم أن لكل احتمال من تلك الاحتمالات ظلاً من الحقيقة، إلى أن الكاتب فرحان صالح في كتابه "محمد علي وعبد الناصر.. ارتسامات النهوض العربي.. الصعود والانكسار" يسعى للبحث عن جذور وبداية التدخل الأجنبي في منطقتنا، منذ أن عرف وطننا العربي أولى موجات الغزو الاستعماري الأوروبي ممثلاً في الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر والشام (1798- 1801).
حول مصر الحديثة يرسم فرحان صالح "ملامح الصعود والانكسار"، بين محمد علي وعبدالناصر، ويضع تجربتهما/ مشروعهما في ميزان التاريخ، في لحظة تاريخية تشهد فيها منطقتنا العربية تحولات كبيرة بفعل انتفاضات شعبية تمثل تراكماً لارتسامات النهوض العربي في مشروعي محمد علي وجمال عبدالناصر. ولتعامل الدول الأوروبية مع مصر بأنماط مختلفة: سواء باحتلالها في عام 1882، أو بمحاولة ضمها إلى سياسة الأحلاف العسكرية في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، أو بمعاداتها سياسياً وعسكرياً كما حدث في 1956، أو بالتآمر عليها في 1976، أو جرها إلى مستنقع التسويات الاستسلامية منذ سبعينيات القرن العشرين حتى الآن.
جذور وبداية التدخل الأجنبي في منطقتنا:
يقول المؤلف في ص (35): "من المعروف أن نابليون كان قد احتل مصر عام 1798، وانسحبت منها الحملة الفرنسية عام 1801، بعد أن تركها قائدها وعاد إلى فرنسا سراً، وكان ذلك بسبب المواجهات الحادة التي واجهته في مدينة الأسكندرية التي لم يتجاوز عدد سكانها آنذاك العشرة آلاف نسمة، وكان على رأس المقاومة محمد كريم الذي أُعدم فيما بعد، لقد تزعم كريم حركة الدفاع عن الإسكندرية بإمكانيات تقليدية ضعيفة، لم يستسلم السكان الذين أوقعوا في الفرنسيين مئات القتلى، في حين ذهب من المقاومين الآلاف".
لقد تغلغل الفرنسيون بصعوبة متناهية في الأراضي المصرية، فواجهتهم في كل قرية أو مدينة مقاومة شرسة، تلك المقاومة التي لم يكن يتوقعها نابليون الذي كان يرى أن احتلال مصر مقدمة أولى لتأسيس إمبراطورية فرنسية في الشرق، ومنها سيتم التغلب على أوروبا المتألبة على فرنسا، لكن الأمور لم تجر كما يشتهي، فواجه الجيش الفرنسي مقاومة مصرية عنيفة، وهو ما دفع الفرنسيين إلى اعتقال آلاف المصريين وإعدامهم، ولم يكتفوا بذلك، بل وجهوا نيران مدافعهم إلى قلب العاصمة ـ القاهرة ـ لهدم أماكن التكتلات الشعبية في المساجد والأسواق وغيرها، وأعدموا المقاومين بقطع رؤوسهم والطوفان بها في الطرقات، إرهاباً للمصريين.
لكن بمعزل عن مقاومة الشعب المصري وعن صور التنكيل الفرنسية البشعة التي مورست بحق هذا الشعب، إلا أن أثر الحملة الفرنسية كان قد شكل انعطافة تاريخية في بنية المجتمع المصري ومرتكزاته الأيديولوجية والفكرية: النظام الدستوري والانتظام أمام القانون، وتأسيس المجمع العلمي، وانتشار المدارس، والبرلمان، وإصدار كتب وصحف.
كانت حملة نابليون سبباً أساسياً لوجود محمد علي، الذي أتى مع الحامية العثمانية لمحاربة الفرنسيين الذين احتلوا مصر، وللمفارقة فقد كان موقع محمد علي في الحملة عام 1800 وكيلاً لقائد الفيلق المقدوني، لكن قائد الحملة من حسن حظ محمد علي اضطر إلى العودة إلى مقدونيا، فخلفه محمد علي في قيادة الحملة التي أُعدت لمحاربة الفرنسيين، ورُقي محمد علي بعد تسلمه لقيادة الحملة إلى رتبة بكباشي.
لقد تغلغل الفرنسيون بصعوبة متناهية في الأراضي المصرية، فواجهتهم في كل قرية أو مدينة مقاومة شرسة، تلك المقاومة التي لم يكن يتوقعها نابليون الذي كان يرى أن احتلال مصر مقدمة أولى لتأسيس إمبراطورية فرنسية في الشرق،
من المفارقات الأخرى التي يرصدها الكاتب، أن محمد علي وُلد عام 1769، أي في نفس العام الذي ولد فيه نابليون بونابرت، وقد نشأ محمد علي في عائلة مقدونية فقيرة، أي في البلاد التي نشأ فيها الإسكندر الأكبر، الذي تأثر به محمد علي، وحاول بناء قوة إقليمية قاعدتها مصر.
على مدى صفحات الكتاب، يرصد الكاتب الارتباط السببي والتشابه بين ماحدث لمشروع الدولة المصرية في عهد محمد علي (1805 ـ 1849)، وما حدث في عهد جمال عبد الناصر (1952ـ 1970)، فمحمد علي وعبد الناصر كلاهما أقبل على رأس ثورة، وكلاهما استهدف قيام الجيش الوطني من المصريين، فأتاح لهم بعد عصور طويلة من تحريم السلاح، أن يمسكوا به، ويشهروه، دفاعاً عن الأمن القومي المصري، فمنذ 520 ق.م تعرضت مصر لغزوات أجنبية مدمرة، حيث حطم الغزو الفارسي الأسرة الفرعونية السادسة والعشرين، وبعد صحوة قصيرة تعرضت للغزو الفارسي ثانية، ثم غزو الإسكندر الأكبر 332 ق.م وحتى ثورة يوليو 1952، زهاء 25 قرناً لم تعرف مصر خلالها حاكماً واحداً من أبنائها، لقد رسم عبدالناصر الشخصية المصرية التي لم يكن أحد من الغزاة معنياً بتمثيلها، أو التعريف بها.
وقد كان محمد علي برتبة "بكباشي"، وعمره 36 عاماً حين خضع الباب العالي لإرادة المصريين وعينه والياً على مصر في تموز (يوليو) 1805، وكان عبد الناصر بالرتبة ذاتها، والعمر نفسه حين انفرد بسلطة الحكم في مصر بعد هذا التاريخ بقرن ونصف.
كانت الصناعة ترادف التحديث في عصري محمد علي وجمال عبدالناصر، فقد شرع محمد علي، عام 1829، بعد تحطيم جميع سفن الأسطول المصري تقريباً، في موقعة "نفارين البحرية"، عام 1827، في بناء دار كبرى للسفن هي "الترسانة البحرية بالأسكندرية"، وفي عام 1831 أنزل إلى البحر أول سفينة ذات مائة مدفع، ثم شيد بجانبها مصانع لصب المعادن والحدادة والبرادة، وصناعة أقمشة الأشرعة، كما أقام مصانع جديدة في القاهرة ورشيد، من بينها ثلاثة مصانع للسلاح بنيت على الطراز الفرنسي المتقدم، كما شيد مصانع لغزل ونسج القطن، ومصانع للسكر، والألبان، وكانت هذه المشروعات مملوكة للدولة، وبالتالي كان غالبية الإنتاج الصناعي والحرفي تحت سيطرة الدولة العلوية، لكن التدهور العنيف الذي شهدته مصر في عهدي عباس وسعيد في مختلف المجالات لم يتح لمسيرة النهضة استئنافاً متطوراً، بعد عصر محمد علي، فأغلقت هذه المصانع تدريجياً.
من هنا تأكدت، اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، دوافع عبدالناصر للتمصير والتأميم، فكانت قوانين التمصير في الخمسينيات من القرن العشرين، والتأميمات في ستينيات القرن نفسه، ثم مشاريع التصنيع الثقيل لتضع حجر أساس النهضة، فتم إنشاء حوالي ألف مصنع، وإنشاء السد العالي، ومجمع الحديد والصلب بحلوان.
إذا كان الإنجاز التاريخي لمحمد علي هو تكوين الجيش المصري، فإن الإنجاز التاريخي لعبدالناصر في هذا المجال هو إعادة تكوين هذا الجيش. وبفضل هذا الجيش قامت مصر في عهد محمد علي، وأثبتت وجودها في العالم كقوة عسكرية بعد ضمها لسوريا والحجاز وكريت إلى الأراضي المصرية، بعد أن هزم محمد علي الوهابيين وهدم الدرعية (عاصمتهم)، في سنة 1818، وقضى مرحلياً على أحلامهم وتطلعاتهم في نقل الخلافة إلى مكة، كما أصبحت الحدود الممتدة من غزة إلى يافا تحت سلطة الجيش المصري، واستسلمت عكا عام 1832، وأصبحت معظم أراضي سوريا الكبرى تحت سيطرة الجيش المصري، ثم ما لبثت أن أعلنت دمشق وحلب وديار بكر والأسكندرونة وبانياس وأنطاكية واللاذقية والسويداء وطرطوس خضوعها للحكم المصري. ولم يتوقف إبراهيم باشا (ابن محمد علي وقائد الجيش المصري) عند هذه المناطق، فتقدم بجيشه إلى الأناضول، فاحتل أضنة وعنتاب وقيصرية، واستولى على قونية عام 1832، وأصبح الطريق مفتوحاً أمام قواته للسيطرة على أسطنبول.
حاولت الدول الكبرى وضع مصر في قالب محدد لا تستطيع مد نفوذها خارجه، فكلما قويت شوكة مصر ازداد القلق، تخوفاً من قيامها بتهديد توزيعات القوة داخل نظامها الإقليمي، بما يهدد المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى،
كان عبد الناصر يسابق الزمن، لكي يثأر لكرامة أمته، ويستعيد هيبتها، لكن فرصة "الانقلاب" هيأها الظرف الذاتي برحيل عبدالناصر، عام 1970، ومن موقع السلطة تم الإجهاز التدريجي على المجتمع الصناعي المتطور، الذي شيدته التجربة الناصرية، فإذ بهذا الإجهاز على القطاع العام والإنتاج الصناعي يواكب التفريط في الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية.